كتب إيلي الفرزلي في صحيفة “الأخبار”:
السلطة التشريعية تحرّض السلطة التنفيذية على تخطّي قرارات السلطة القضائية. هذا ما فعلته لجنة الإعلام والاتصالات النيابية حين طلبت من وزارة الاتصالات دفع الأموال لهيئة أوجيرو بموجب عقد ٢٠١٩، بالرغم من أنه كان لا يزال قيد التحقيق في النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة. صحيح أن أوجيرو بحاجة إلى الأموال لتسديد التزاماتها، لكن ذلك لا يبرّر التوصية بتخطي قرار ديوان المحاسبة. الطريق الأقصر لحصول الهيئة على أموالها هو توقيع عقد مصالحة، لكن بعد خمسة أشهر من طلب الديوان، لم يُعرض على هيئة الاستشارات والتشريع أي عقد من هذا النوع.
أن تقفل هيئة أوجيرو أبوابها، سيناريو تحوّل خلال أيام إلى واقع يتناقله كثر. سبب الإقفال المفترض كان عدم توفّر السيولة في الهيئة، وتراكم المستحقات عليها، والتغيّر الكبير في أسعار صرف الليرة مقابل الدولار، أضف إلى عدم امتلاكها لمخزون كاف من معدّات التشغيل ومن قطع الغيار الضرورية للصيانة.
لا شك في أن أوجيرو تعاني من نقص في السيولة، لكن المشكلة تعود إلى سنوات من المخالفات، التي جعلت عين هيئات الرقابة تُفتح على الهيئة. فكانت النتيجة تقارير بالجملة، تبيّن أن في الهيئة فساداً وهدراً.
تلك إشكاليات لطالما ناقشتها لجنة الاعلام والاتصالات، لكنها في اجتماعها الأخير قرّرت التغاضي عنها جميعها والانتقال إلى ضفّة أولوية حصول الهيئة على الأموال، حتى لو كان في ذلك تخطٍ لرأي الهيئات الرقابية. قال رئيس اللجنة حسين الحاج حسن على الملأ إنها «طلبت، بإجماع الأعضاء، أن يمشي عقد العام ٢٠١٩»، بالرغم من أن النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة كانت لا تزال تحقق فيه. الحجة أن الغرفة المعنية في الديوان سبق أن وافقت على العقد، ولذلك فإن التوصية النيابية سعت للتوفيق بين دفع الأموال الواجبة في عقد ٢٠١٩، «لأننا لا نستطيع أن نبقي المرفق العام مجمّداً»، وبين تطييب خاطر قضاة الديوان، عبر توجيه التحية لهم، مع «حثّهم على توحيد الاجتهاد».
بالنسبة إلى رئيس أوجيرو عماد كريدية، الذي لم يشارك في الجلسة لأسباب صحية، فإن «قرار اللجنة منطقي، خاصة أنه مضى وقت طويل على قرار التريّث، ولا يجوز حجز أموال المتعهدين أكثر من ذلك، علماً بأنهم أنجزوا كل الأعمال المنصوص عليها في العقود، وأوجيرو ليس لها أي مصدر تمويل خارج إطار العقود الموقّعة مع وزارة الاتصالات». لكن بحسب مصادر قضائية مطّلعة، فإن التوصية النيابية لا قيمة قانونية لها. وحتى لو أتت في سياق تغطية أي خطوة من هذا القبيل قد يقوم بها وزير الاتصالات طلال حواط، فإنها لن تجديه نفعاً عندما يتعرّض للمساءلة عن مخالفته، خاصة أن قانون المحاسبة العمومية ينص على أن يتحمل الوزير مسؤولية أي مخالفة من ماله الخاص، علماً بأن موقف هيئة الاستشارات والتشريع في وزارة العدل واضح في ضرورة إجراء عقود مصالحة في حال التأخر في عرض العقد على ديوان المحاسبة للحصول على موافقته المسبقة. لم يشأ حوّاط تحمّل مسؤولية تفعيل العقد بمفرده، فأعلن في مؤتمره الصحافي الأخير أنه سيطرح الأمر على مجلس الوزراء لنيل موافقته على دفع قيمة العقد. يعلّق مصدر قضائي على الخطوة بالقول: في النهاية، يحق للحكومة أن تفعل ما تشاء، لكن أي قرار من هذا النوع، سيكون قابلاً للطعن من قبل المتضررين. أضف إلى أن إصدار قرار كهذا سيمثّل انتكاسة لجهود مكافحة الفساد، خاصة في ظل كل الشبهات والمخالفات التي تم التحقيق فيها في النيابة العامة لديوان المحاسبة، والتي خلصت أمس إلى الادعاء على رئيس الهيئة عماد كريدية وعضوي مجلس الإدارة غسان ضاهر وهادي أبو فرحات أمام الديوان لمخالفتهم قانون المحاسبة العمومية وقانون تنظيم ديوان المحاسبة، وأمام النيابة العامة التمييزية لاتهامهم بجرائم جزائية تصل عقوبتها إلى ثلاث سنوات في السجن.
لو أن وزارة الاتصالات وقّعت عقد المصالحة منذ بداية العام، لما كانت أوجيرو تعاني من شحّ السيولة اليوم
فبعد قرار الغرفة التي ترأستها القاضية زينب حمود بالموافقة على العقد في نهاية ٢٠١٩، ثم إصرارها على موقفها بالرغم من اعتراض رئيس الديوان محمد بدران والمدعي العام لدى الديوان فوزي خميس، كانت النيابة العامة تحقق في «أسباب المباشرة في التنفيذ قبل توقيع العقد والاستحصال على الموافقة المسبقة لديوان المحاسبة». كما تحقق في «مخالفات مالية فاضحة وهدر للأموال العمومية…».
التعبئة العامة لم تؤخر هذه التحقيقات وحسب، بل أخّرت أيضاً تصديق محضر الجلسة الاستثنائية التي عقدتها الهيئة العامة للديوان قبيل الإقفال (سافرت أمينة السر إلى الخارج لأسباب خاصة، ولم تتمكن من العودة بسبب إغلاق المطار). في اجتماع الهيئة التي تضم كل قضاة الديوان، الذين يصل عددهم إلى نحو ٢٥ قاضياً، تركّز النقاش على القرار الذي صدر عن الغرفة السابعة، لما شكّله من إشكال قانوني ينبغي حسمه. وبالفعل، نقضت الأغلبية القرار، مع تأكيدها مبدأ عدم جواز إعطاء موافقة مسبقة بمفعول رجعي.
عملياً، ما وصفته لجنة الاتصالات بالخلاف في الاجتهاد، حسمته أعلى هيئة قضائية في الديوان. لكن مع ذلك، بدا واضحاً أن رئيس لجنة الاتصالات يميل إلى وجهة نظر القاضية حمّود. وهو ميل سبق أن ثبّته حزب الله، عبر مشاركة النائب علي فياض في جلسة سابقة للجنة، بمهمة واضحة هي الدفاع عن حمّود.
في النتيجة، لم يأت التأخير من جهة ديوان المحاسبة فقط. وزارة الاتصالات لم تشأ أن تعدّ عقد مصالحة وتحيله إلى هيئة الاستشارات والتشريع، بالرغم من توصية رئيس ديوان المحاسبة والمدعي العام لدى الديوان بذلك، على اعتبار أنها الطريقة القانونية الوحيدة للحصول على الأموال وتسيير المرفق العام. ولو فعلت ذلك، منذ بداية العام، لما كانت أوجيرو تعاني من شح السيولة اليوم. ورداً على سؤال عن سبب عدم اللجوء إلى عقد مصالحة، يقول كريدية إن «الهيئة قامت بالمطلوب منها قانوناً لناحية التوقيع على العقد ضمن المهل القانونية، مشيراً إلى أن مسؤولية توقيع العقد والتواصل مع الديوان يقعان حكماً على الوزارة، حيث إنها الطرف الأول في العقد». في المقابل، تعتبر مصادر مطّلعة أن رفض اللجوء إلى عقود المصالحة يعود إلى كونها تلزم هيئة التشريع بالتدقيق في كل العقود والفواتير، ولا تبرر الإنفاق الذي يخرج عن إطار تسيير المرفق العام. ففي المنطق القانوني، إذا لم يوقّع العقد لا يمكن لأوجيرو أن تصرف الأموال، إلا في الحدود الضيّقة. وهو أمر لم تلتزم به. هذه الأزمة سبق أن واجهتها الوزارة والهيئة في عقد العام 2017، الذي تأخرت الوزارة في الحصول على الموافقة المسبقة عليه، فحوّلته إلى عقد مصالحة وأحالته إلى هيئة التشريع للموافقة عليه. حينها لم تكتف الهيئة برفض العقد، لما يتضمنه من مخالفات، بل أفتت بـ«إحالة الملف إلى النيابة العامة المالية وإلى هيئة التفتيش المركزي لإجراء المقتضى الذي تراه كل منهما ضرورياً في ضوء ما تضمّنته الاستشارة».
أموال أوجيرو عن العامين ٢٠١٧ و٢٠١٩ لا تزال عالقة، لكن مع ذلك لا تزال قادرة على تسيير أمورها من خلال الأموال المرصودة لها في عقد العام ٢٠٢٠. ديوان المحاسبة وافق على العقد، وكذلك أنجزت الهيئة والوزارة ما يجب عليهما، إلا أنه لا يزال عالقاً لدى وزارة المالية، على ما يشير كريدية.