كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
قد لا يكون مفاجئاً تبادل السجناء، قبل أيام، بين واشنطن وطهران. وكان ممكناً النظر إلى المغزى الإنساني لهذه الخطوة. لكن الدعوة التي وجّهها الرئيس دونالد ترامب إلى إيران لعقد «صفقة كبرى» أعطت الحدث أبعاداً أخرى. وسأل كثيرون: ما حقيقة موقف ترامب في هذه المرحلة: هل يسعى إلى فتح حوارٍ مع إيران، أم يسعى إلى «سحقها» بالضغوط، هي وحلفائها الإقليميين؟
في مواجهتهم للضغوط الأميركية، يتبنّى الإيرانيون فلسفة «الصبر». وفي اعتقادهم أنّ الأشهر الـ6 الباقية للانتخابات الرئاسية الأميركية لن تكون في أي حال أكثر صعوبة من الأشهر الـ42 التي مضت من ولاية ترامب. وسيكون ممكناً تمريرها بالحدّ الأدنى من الخسائر.
في تقدير الإيرانيين، لا بأس من انتظار الانتخابات ليحسموا قرارهم في مفاوضة واشنطن. فإذا فاز ترامب قد يكونون مضطرين إلى عقد الصفقة معه. وإلّا فسيكونون مرتاحين في التعاطي مع منافسه الديموقراطي جو بايدن. ولذلك، كابَر الإيرانيون في الردّ على دعوة ترامب، وكان جوابهم: «فليعترف أولاً بالاتفاق النووي، ويوقف العقوبات. وبعد ذلك، لكل حادث حديث».
العديد من المطلعين مقتنعون بأنّ ترامب لا يناور في دعوة إيران إلى التفاوض. وعلى العكس، هو يحتاج إلى «الصفقة» معهم، لتكون خرقاً سياسياً كبيراً في السياسة الخارجية يزيد من قوّة أوراقه الرئاسية. لكن ترامب يعرف أنّ الإيرانيين براغماتيون وبارعون في اللعب على حافة الهاوية، وأنّهم لا يتنازلون إلاّ إذا باتوا فعلاً على وشك السقوط.
يعاني الإيرانيون من تبعات الحصار بشدّة. لكنهم حتى اليوم قادرون على «التعايش» مع الضغوط بفضل حليفين أساسيين: روسيا والصين. ولكن أيضاً، يضطلع الأوروبيون بدور «حصان طروادة» في الحرب الأميركية على إيران. والعديد من القادة الأوروبيين يشاركون طهران ضمناً رهانها على هزيمة ترامب في الانتخابات.
لا يمكن للاستطلاعات التي تُجرى اليوم في الولايات المتحدة أن تحسم اتجاه المعركة الرئاسية. ومن المبكر تقدير حظوظ كل من ترامب وبايدن، لأنّ التطورات المرتقبة خلال الأشهر المقبلة كفيلة بخلط الأوراق مرّاتٍ عدة.
لكن هناك مَن يعتقد أنّ ترامب لن يفوِّت الفرصة ليحسم هو ملف إيران وملفات أخرى حساسة في الشرق الأوسط، خلال وجوده في البيت الأبيض، أي في ولايته الحالية. وقد يتركها للولاية المقبلة، إذا كان واثقاً في الفوز بها.
ولذلك، الضغط الذي يمارسه ترامب اليوم على إيران، ليس مؤشراً إلى رغبته في شنّ الحرب عليها، بل بهدف إضعافها وجرِّها إلى التنازل وإبرام صفقة رابحة معها. وأساساً، هذه هي استراتيجية ترامب في السياسة كما الأعمال: إضعاف الخصم إلى حدود بعيدة، بحيث يأتي مستسلماً إلى طاولة التفاوض.
وإصرار ترامب على رفض توجيه ضربة عسكرية لإيران كان موضع خلاف بينه وبين بعض الأركان في حلقته الضيّقة، منذ وصوله إلى البيت الأبيض. ومن هؤلاء، مستشار الأمن القومي جون بولتون، الذي كان يعتقد أنّ إنهاء النظام الإيراني بالقوة العسكرية هو الطريق الصحيح لإنهاء المشكلة.
واليوم، يمضي ترامب في الضغط على إيران وحلفائها في العراق وسوريا ولبنان، ويستعدّ لفرض جيلٍ جديد من العقوبات، أقربها «قانون قيصر»، سعياً إلى إضعافهم. وهذا المناخ يريح إسرائيل، التي تنشغل بتحضير الأرضية لخطواتها المقبلة من مسار «صفقة القرن»، ويهمُّها إبعاد النفوذ الإيراني عن حدودها.
واضح أنّ الأميركيين والإسرائيليين يريدون تغيير سلوك النظام الإيراني وضبط انفلاشه في الشرق الأوسط وصولاً إلى حدود إسرائيل وواجهة المتوسط. لكنهم لا يريدون إسقاطه. وثمة من يرى أن لا بديل جاهزاً ومناسباً- في نظر الأميركيين- إذا ما تعرَّض هذا النظام للسقوط. ولذلك، الأفضل التعاطي معه كأمر واقع مرحلياً، وفق سياسة «العصا والجزرة».
ويقول المطلعون في واشنطن، إنّ ترامب يطمح إلى إطلاق المفاوضات وإبرام الصفقة الموعودة، لكنه سينسحب لوجستياً من المنطقة عموماً، ولا سيما من شمال شرق سوريا. أما الحلفاء فعليهم أن يتحمَّلوا مسؤولية الدفاع عن مصالحهم. وهذا الواقع سيظهّر معادلة جديدة في الشرق الأوسط.
ويعتقد البعض، أنّ وصول لبنان إلى هذا الوضع يشكّل فرصة مثالية لإعادة تأسيسه على مرتكزات قوة جديدة. وفي هذا الخضم، أين سيكون لبنان؟ وإذا كان اليوم قد وصل إلى الانهيار بسبب الصراع الشرس بين الولايات المتحدة وإيران، فهل سيستفيد من «الصفقة» المحتمل إبرامها، أم يدفع ثمن الوفاق كما دفع ثمن الصراع؟
أي دورٍ سيكون لإيران وحلفائها في لبنان، بعد الصفقة؟ وهل يكون لبنان واحدة من الأوراق التي تُعطى لإيران كجزء من المقايضات؟ أي، هل تكون الأقوى، في عملية إعادة تشكيل النظام اللبناني، بعد الانهيار المالي والاقتصادي؟
في السابق، قامت الولايات المتحدة والأوروبيون بتلزيم لبنان لنظام الرئيس بشار الأسد في الطائف وبعده وحتى 2005. فهل يرثُ المحور الإيراني هذا الدور في صفقة جديدة؟
في المقابل، كيف تستطيع المكوّنات الأخرى في لبنان أن تحفظ حضورها في خضم هذا الزلزال، ومَن يكون ضمانتها في مقابل إيران، ضمانة الفريق الآخر؟ وفي عبارة أخرى، هل سيكون اللبنانيون حاضرين لمواكبة كل هذه التحدّيات، بحيث تصبّ في مصلحة الدولة لا سواها؟