كتب وليد شقير في “الاندبندت عربية”:
يتمخض المشهد السياسي اللبناني عن مزيد من التعقيد والفوضى وسط الصعوبات التي تحيط بأزمته المالية الاقتصادية والسياسية، والتخبط الحكومي في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، الهادفة للحصول على مساعدة مالية وفق برنامج إصلاحات هيكلية.
وتزداد الضبابية على المسرح السياسي اللبناني في ظل استمرار تشتت الأحزاب المعارضة للتركيبة الحاكمة، والذي كان أحد مظاهره السجال الحاد بين زعيم تيار “المستقبل” سعد الحريري ورئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع نتيجة التباينات المتراكمة بينهما.
ومع عودة الاحتجاجات الشعبية المندِدة بتردي الأوضاع المعيشية بفعل ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي وانعكاساته على السلع الغذائية، إلى الشارع، ظهرت هشاشة الوضع السياسي الداخلي وضعف الحكومة التي يرأسها حسان دياب في المبادرة لإدارة تداعيات الاضطرابات الاجتماعية. فاستعادت ردود فعل “حزب الله” على تحركات الشارع ضد الحكومة التي رعى تأليفها، مظاهر الصراع الأهلي الطائفي والمذهبي، فضلاً عن قلقه العميق من ملاقاة هذه الاحتجاجات بسبب تصاعد الضغوط الأميركية عليه من البوابة اللبنانية – السورية.
ونجح الحزب في تحويل الأنظار عن تحميله مسؤولية تردي الوضع الاقتصادي نتيجة إخضاعه اقتصاد لبنان للعقوبات الأميركية بسبب تدخلاته الإقليمية، فانشغلت القيادات الروحية الشيعية والسنية وكذلك الحريري ورئيس البرلمان نبيه بري بجهود لملمة آثار مواجهات أخذت الطابع الأهلي.
الاستئثار بالتعيينات المالية
من جهة أخرى، وتحت ستار الانشغال السياسي بتدارك أي عودة للصراع الأهلي، توافق قادة مكونات الحكومة، لا سيما رئيس الجمهورية ميشال عون و”التيار الوطني الحر” الذي يرأسه النائب جبران باسيل، والثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله) على سلة تعيينات إدارية ومالية في مناصب مهمة، صدرت عن الحكومة مساء الأربعاء 10 يونيو (حزيران) الحالي. وتندرج تلك التعيينات في سياق وضع اليد على مؤسسات في الدولة من قبل عون وتياره، واستبعاد سائر الفرقاء المسيحيين الآخرين بمَن فيهم الشريك في الحكومة، تيار “المردة” الذي يرأسه النائب السابق سليمان فرنجية (قاطع وزيراه اجتماع الحكومة)، وقوى المعارضة لاسيما تيار “المستقبل” الممثل الأقوى للطائفة السنية. فيما توزعت الحصة الدرزية بين منصب مهم لحليف عون النائب طلال أرسلان، وآخر ثانوي لجنبلاط.
وخُطفت هذه التعيينات لأنها صدرت خلافاً لقانون أقرّه البرلمان قبل 10 أيام، كان نواب حزب “القوات اللبنانية” اقترحوا مسودته، يحدد آلية اختيار المرشحين الكفوئين لمناصب الفئة الأولى في الدولة تجنباً للمحاصصة في تقاسمها.
أكثرية المناصب المالية لحلفاء “الحزب”
وشملت دفعة التعيينات نواب حاكم مصرف لبنان، لجنة الرقابة على المصارف، الأسواق المالية، مفوّض الحكومة وهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان. وهي المرة الأولى التي يحصل فيها حلفاء “حزب الله” على حصة راجحة في صلب القرار المالي، بحيث بات حاكم المصرف المركزي رياض سلامة الذي أراد عون والحزب الإطاحة به في أبريل (نيسان) الماضي، مطوقاً من فريق “8 آذار”. وهذا يرتب حسابات داخلية وخارجية حول كيفية التعاطي الدولي مع لبنان ومعالجة أزمته المالية. وقد يستدرج رد فعل من الجانب الأميركي الذي كان مهتماً بوجود أشخاص يمكن “الوثوق بالتعاون معهم”، لا سيما في شأن تطبيق العقوبات التي يفرضها على “حزب الله” وإيران والنظام السوري. كما أن قانون “قيصر” الذي يمنع التعامل مع النظام السوري والمؤسسات والشركات التابعة له، بات نافذاً وستصدر إجراءات تطبيقية له الأسبوع المقبل.
وأفاد مصدر سياسي واسع الاطلاع “اندبندنت عربية” بأن “حصول التعيينات خلافاً لما كان يأمل فيه الجانب الأميركي، قد يتسبب بتردد إضافي في تقديم المساعدة المالية للبنان في إطار صندوق النقد الدولي، نظراً إلى نفوذ واشنطن في مجلس إدارته، إذ تملك حق الفيتو لأن مساهمتها في رأسماله تفوق الـ15 في المئة. ويفترض رصد رد فعل دول أوروبية أخرى حيال ذلك في المرحلة المقبلة”.
ويشير مراقبون إلى أن توقيت هذه التعيينات غير موفَق في ظل معلومات صحافية سُربت الأربعاء من واشنطن، عن أن لجنة الدراسات التابعة للحزب الجمهوري في الكونغرس الأميركي أصدرت توصية بوجوب فرض عقوبات على حلفاء لـ “حزب الله” ومقربين منه، مع ذكر بعض الأسماء.
المعارضة مفككة
إلا أن نجاح حلفاء “الحزب” في تحقيق أرجحية في المناصب المالية يعود بحسب المراقبين السياسيين إلى محدودية قدرة المعارضة على التأثير في قرارات الحكومة على الرغم من الحملة ضد سياساتها الاقتصادية والمالية وخطتها الإنقاذية وتأخرها في الإصلاحات الهيكلية وخصوصاً في قطاع الكهرباء، ووضع حد للهدر في الإنفاق ومنع التهريب ووقف المحاصصة في المؤسسات. فالمعارضة التي تتشكل من “المستقبل” و”القوات” و”الاشتراكي” و”الكتائب”، (وينسجم معها أحياناً فرنجية) تتلاقى على أهداف عدة، لكنها مفككة وتعاون مكوناتها يتصف أخيراً بأنه يجري بالمصادفة، بموازاة ظهور قوى الموالاة بمظهر التنافس والتناحر أحياناً. وآخر مظهر للتفكك كان السجال الذي دار بين الحريري وجعجع فجأةً، على الرغم من أنهما ينسقان المواقف عبر قنوات التواصل المفتوحة بين قياديين منهما، في مواضيع عدة.
الحريري وجعجع يصعّدان ضد عون ويتساجلان
واندلع السجال على خلفية حديث جعجع إلى صحيفة “الأهرام” المصرية، قال فيه رداً على سؤال عن عدم تسمية “القوات” الحريري لرئاسة الحكومة الخريف الماضي، إنه لم يتخلَ عن دعم زعيم “المستقبل”، “لكن الظروف كانت غير مناسبة على الإطلاق لتولي الحريري رئاسة الحكومة وكان من الممكن أن تكون نهاية له. هذا اعتقادنا وحساباتنا”. ورأى أننا “كنا بحاجة إلى تغيير كبير في لبنان حيث لا يمكننا أن نستكمل المسيرة بالطريقة نفسها وأشخاص السنوات العشر الأخيرة نفسهم”.
وكان لجعجع في حديثه الصحافي موقف هو الأول من نوعه ضد الرئيس عون، إذ قال “لو كنت أنا مكان العهد (رئاسة الجمهورية) لقدّمت استقالتي”، مشيراً إلى أن لبنان “يتحرك نحو المجهول”. وهو يتلاقى بذلك مع تصعيد الحريري حملته على رئيس الجمهورية قبل ساعات من بث كلام جعجع، حين قال إن “العهد القوي ينافس الرئيس القوي بسرعة الفشل والتخبط والكيدية وخرق الدستور وإثارة العصبيات والجوع المزمن للإمساك بالتعيينات والمواقع الإدارية والمالية والاقتصادية”. وانتقد الحريري “اعتبار العهد التعيينات ملكاً لجهة حزبية واحدة، واتخاذ الرئاسة متراساً للدفاع عن مطالب حزب العهد”، متهماً الأخير بـ “خرق الدستور وتجاوز الصلاحيات”.
لكن كلام جعجع عن نهاية الحريري لو تولى رئاسة الحكومة أثار حفيظة الأخير فكتب رداً لاذعاً على “تويتر” جاء فيه بالعامية اللبنانية “ما كنت عارف انو حساباتك هالقد دقيقة. كان لازم أشكرك لأنو لولاك كان من الممكن انو تكون نهايتي. معقول حكيم؟ أنت شايف مصيري السياسي كان مرهون بقرار منك؟ يعني الحقيقة هزلت. يا صاير البخار مغطى معراب او إنك بعدك ما بتعرف مين سعد الحريري”.
وبدا أن الخلاف بين الحليفين المفترضَين اشتد، فسارع جعجع إلى إعطاء تعليمات لنواب تكتله ووزرائه السابقين وجهاز “القوات” الإعلامي والأنصار على مواقع التواصل الاجتماعي، بالامتناع عن الرد على الحريري، وفُتحت الاتصالات بين ضابطي الاتصال بين الفريقين، الوزيرَين السابقين غطاس خوري وملحم رياشي، فكرسا الاتفاق على إطفاء السجال، بينما أبلغ الحريري نوابه بعدم التصعيد والاكتفاء بما حصل طالما أن قرار “القوات” هو إبقاء الأمر عند هذا الحد. وحين غرد النائب في “المستقبل” سامي فتفت بعبارة قصيرة حول موضوع الخلاف مع جعجع، طُلب إليه سحبها بعد دقائق. وامتنع قياديو الفريقين عن الإدلاء بتصريحات رافضين أن يُنسب أي كلام حتى لمصادرهما، وفق قول الأخيرة لـ “اندبندنت عربية”.
الذين اتصلوا بـ “المستقبل” فهموا أن زعيمه لن يقبل بأن يحدد جعجع مصيره، “كأن زعامته متوقفة على موقفه منه”. وبغض النظر عما إذا كان جعجع أساء التعبير فإن تبريره ما قاله بالإشارة إلى أن “القوات” لم تؤيد تسلمه رئاسة الحكومة (في الاستشارات النيابية التي جرت في 19 ديسمبر/كانون الأول 2019) “نظراً إلى الحاجة للتغيير في الشخصيات التي تولت إدارة الأمور خلال السنوات الـ10 الأخيرة”، هو منطق سياسي يطعن بتجربة الحريري ويضعه في خانة الطبقة الفاسدة التي تُوجَه إليها الاتهامات، فيما يعتبر رئيس “القوات” أن مَن يقف ضد طموحه الرئاسي، هو “حزب الله” والطبقة الفاسدة.
وإذ تعترف المصادر السياسية المتصلة بالطرفين أن القضية قصة “قلوب مليانة” (أي خلافات متراكمة بينهما) بين الزعيمين، تشير إلى أن أوساط “المستقبل” تتحدث عن موقع إلكتروني مقرَّب من “القوات” دأب على انتقاد الحريري على الرغم من تبرؤ مسؤولي الحزب الذي يتزعمه جعجع من هذا الموقع، بينما يشرف عليه أحد نوابه. لكن المصادر المتصلة بـ”القوات” تنفي أن يكون قصد جعجع التعرض لرئيس الوزراء السابق، خصوصاً أنه تعايش في الحكومتين السابقتين لمدة 3 سنوات مع الحريري وتعرف أن مَن كان يعرقل العمل الحكومي وتحقيق إنجازات كان “حزب الله” وباسيل.
وليست هذه المرة الأولى التي يعتبر فيها جعجع أنه لو تولى الحريري الرئاسة الثالثة مجدداً، كممثل أصيل للطائفة السنية ويحظى بشعبية، لكان خسر نتيجة العراقيل القائمة حالياً في معالجة ملف الكهرباء، والتشكيلات القضائية والتعيينات وسائر الملفات، ولكان عون و”حزب الله” حملاه مسؤولية تأخير الحلول كما حصل في الحكومتين السابقتين حيث برروا فشل الإنجازات بعراقيل الحريري و”القوات”. وفي اعتقاد هذه المصادر أن “القوات” ترى أن عدم اشتراكها والحريري في الحكومة كشف مسؤولية عون و”حزب الله” عن العرقلة، في وقت يتابع الفريق الحاكم سياسات الاستئثار كما حصل في تعيينات الأربعاء.
وتؤكد المصادر السياسية ذاتها أنه كان لا بد من إطفاء السجال لأن “القوات” تدعو إلى عدم تحويل الأنظار عما حصل من قرارات كارثية في جلسة الحكومة الأربعاء، بما فيها من مخالفات دستورية وقانونية، من شانها أن تأخذ البلاد إلى المزيد من الانهيار.
وتشدد الأوساط المواكبة لموقف “القوات” على أنها لن تسمح بتمريرة لأي كان من أجل استغلال ما حصل، وأنه لا بد من معالجة الخلاف، المتراكم منذ سنتين، في اجتماع بين الحريري وجعجع كي يتصارحا ويركزا على ما يجمعهما، وهو أكبر بكثير.
ويذكّر مراقبون أن بين الفريقين اتهامات متبادلة حول المسؤولية عن وصول عون لرئاسة الجمهورية، بعدما رأى كل منهما أنه أخلّ بالاتفاق مع الآخر، ما أدى إلى الضرر الذي يعانيه البلد حالياً. وفي مرحلة رئاسة الحريري للحكومة كانت “القوات” تأخذ عليه مسايرته عون وباسيل على حسابها كطرف حليف، فيما كان الحريري يبرر تفاهماته مع عون بالحرص على تمرير القرارات الهادفة لإنقاذ الوضع الاقتصادي.
وكانت هذه التراكمات، ليس فقط بين “المستقبل” و”القوات” بل بين سائر قوى المعارضة، حالت دون قيام جبهة معارِضة موحدة للحكم والحكومة. وسبق لجعجع أن قال إن الحريري وجنبلاط لا يرغبان في موقف صدامي مع “حزب الله”. كما أن لكل من “الحلفاء” حسابات مختلفة في شأن عناوين عدة طرحتها الانتفاضة الشعبية، ومنها الانتخابات النيابية المبكرة على أساس قانون جديد، الأمر الذي يؤيده “المستقبل” فيما يعتبر “القوات” أنه إذا لا بد من الذهاب إلى صناديق الاقتراع فلتكن وفق القانون الحالي.