لم «يصمد» الدويّ السلبي لـ«الولادة القيصرية» لسلّة التعيينات الإدارية والمالية على وهج لعبة حافة الهاوية بين مكوّنات حكومة الرئيس حسان دياب، أمام هدير سقوطٍ كأنه بـ«سرعة الصوت» لليرة اللبنانية أمام الدولار الذي واصل لليوم الثاني على التوالي القفْز إلى مستوياتٍ قياسية، ناهزت أمس 6500 ليرة في السوق السوداء، تارِكاً البلاد في صدمةٍ يُنتظر أن تترك ارتداداتٍ متدحرجة في الشارع في ظلّ «السكتة القلبية» التي أصابتْ الخطة التي وضعتْها السلطة اللبنانية لهبوطٍ متدرِّج للعملة الوطنية إلى حدود 3200 ليرة بحلول منتصف الأسبوع المقبل.
وبدا أمس أن «القنبلة الزلزالية» التي يشكّلها الاحتراقُ الدراماتيكي لليرة أمام العملة الخضراء سرَق العدسات إعلامياً من مشهدية المحاصصة الفاقعة البوليتيكو – حزبية التي ارتسمتْ مع ما اعتبره كثيرون «تهريبة» التعيينات والأضرار الفادحة التي ألحقتْها بما تبقى من رصيدٍ لحكومة دياب في الداخل والخارج، لكن من دون أن تغيب التداعياتُ السياسية لانزلاق هذه الحكومة «الإراديّ» إلى فخّ تقاسُم كعكعة المراكز الإدارية بعد «تَناتُشٍ» و«اقتتال» سياسي بين رعاتها، هي التي يخضع أداؤها لمعاينةٍ لصيقة من المجتمع الدولي كما صندوق النقد الدولي، إذ يفترض أن تكون شريكةً في عملية إنقاذٍ مالي تعترض طريقها صعوباتٌ تقنية ومسارٌ سياسي تزدادُ تعقيداتُه كلما اشتدّ عصْف الصراع الاقليمي واقترب دخول «قانون قيصر» الأميركي حيز التنفيذ خلال أيام.
ولم يكن ممكناً في بيروت، فصْلُ «تحليقِ» الدولار والتداعيات المرتقبة لخلاصات جلسة الأربعاء الحكومية عن التحوّلات المفصلية على جبهة المواجهة بين واشنطن والمحور الإيراني والتي اتخذت منحى غير مسبوق في شدّتها وتَشَدُّدها مع لجوء الولايات المتحدة في الطريق لانتخاباتها الرئاسية إلى استخدامِ ما يشبه «القنابل الفراغية» بالعقوبات، وآخِر نسخها وأكثرها زجْراً «قانون قيصر»، وذلك في سياق القرار الحاسم بقطْع الأوكسجين عن النظام السوري وحلفائه ولا سيما إيران وأذرعها العسكرية وفي مقدّمها «حزب الله»، ومحاولة إحداث «موجات صدْم» كافية لتحقيق هدَفٍ أميركي معلن هو فتْح الباب «أمام عملية سياسية (في سورية) من الممكن ألا تقود الى تغيير النظام لكن تطالب بتغيير سلوكه، وعدم تأمينه مأوى للتنظيمات الارهابية، وعدم تأمينه قاعدة لايران من أجل بسط هيمنتها على المنطقة».
وفيما كانت تتكرّس تباعاً التقاطعاتُ بين انهيار العملة السورية، في ما بدا أول غيث التأثيرات السبّاقة لـ«قيصر»، وبين تعميق جِراح الليرة اللبنانية بعدما تحوّلت السوق السوداء في «بلاد الأرز» المتنفّس الأخير للسوريين الراغبين في جمْع «بقايا الدولارات» تَحَسُّباً لمفاعيل «قاتلة» للقانون الأميركي مع بدء العدّ العكسي لسريانه عملياً بعد أيام، فإن أوساطاً واسعة الاطلاع أبدت تشاؤماً كبيراً حيال آفاق الواقع اللبناني الذي خسِر آخِر «سِتار فاصل» عن الصراع الأميركي – الايراني والذي صار واضحاً أنه دخل مرحلة عض أصابع هي الأقسى في ضوء رغبة الرئيس دونالد ترامب في جعل إيران «ترْكع على الركبة» تمهيداً لمسارٍ تسْووي بشروط الولايات المتحدة، وهو ما عبّر عنه الرئيس حسن روحاني بكلامه قبل ايام عن أن بلاده تتعرض لسياسة «الركب على الرقاب»، في مقابل محاولة طهران الصمود وتمرير الفترة الفاصلة عن السباق إلى البيت الأبيض… بما يلْزم.
وإذا كان كلام المبعوث الأميركي إلى سورية جيمس جيفري أخيراً عن أن «النظام السوري لم يعد باستطاعته (تبييض) الأموال في البنوك اللبنانية التي تعاني أزمة»، عَكَس الترابط غير الخفي الذي صار قائماً على طريقة وحدة «المسار والمصير» بين الأزمتينْ السورية واللبنانية، فإنّ «إنزالاً» جديداً محتملاً بالعقوبات باغَتَ بيروت التي كانت مأخوذة بـ«قيصر» وإمكانات التكيّف مع موجباته، فإذ بها «تُصعق» بالتوصيات التي كُشف أن لجنة الدراسات في الحزب الجمهوري في الكونغرس الأميركي قدّمتْها من ضمن استراتيجيةٍ للأمن القومي تحت عنوان «تقوية أميركا ومواجهة التهديدات العالميّة» وتقوم على فرض أقسى عقوبات ضد إيران ووكلائها في المنطقة، وتضمّنت في الشق اللبناني وقْف المساعدات للجيش، وإصدار تشريع يلاحق داعمي «حزب الله» ممن هم خارج الحزب، كرئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، إلى جانب «معاقبة كل وزراء الحزب في الحكومة اللبنانية ومن يقدّمون أنفسهم على أنهم مُستقلون وهم داعمون له، مثل النائب جميل السيد والوزير السابق جميل جبق والوزير السابق فوزي صلوخ».
ولم يكن جفّ حبر هذا التطور الذي كشفتْه «سكاي نيوز» والذي رغم أنه ما زال في طور التوصيات إلا أنه يعبّر عن اتجاه أميركا لاستخدامِ «أنيابها» في وجه إيران وأذرعها وهو ما سيتكرّس عبر تضمين هذه التوصية في مشروع قانون عقوبات جديد يستعدّ الجمهوريون لتقديمه في الكونغرس، حتى كان الرئيس ميشال عون يستقبل السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا.
واكتفى المكتب الإعلامي في القصر الجمهوري بالإشارة إلى أن عون «عرض مع شيا العلاقات اللبنانية – الأميركية وسبل تطويرها في المجالات كافة، كما أجرى الرئيس عون مع السفيرة شيا جولة أفق تناولت التطورات الإقليمية الراهنة»، ناقلاً عن السفيرة الأميركية «تأكيدها لرئيس الجمهورية دعم بلادها للبنان في المجالات كافة والوقوف الى جانبه في الظروف الصعبة التي يجتازها»، موضحة «أن الولايات المتحدة تدعم الخطوات الإصلاحية التي يقوم بها لبنان كي يتمكن من الخروج من الازمة الأقتصادية المالية التي يعانيها».
وفي حين كانت الكواليس السياسية مشدودةً إلى المناخ الاقليمي العاصِف وتشظياته المرتقبة لبنانياً، لم تتوانَ الأوساط الواسعة الاطلاع عن الإطلالة على ملف التعيينات التي أُقرت أول من أمس من زاوية انعكاساتها على النظرة الدولية إلى «وعود الإصلاح» (الشَرْطية لتقديم المساعدة للبنان) التي تَهشَّمت تحت وطأة المحاصصة النافرة، التي قوبلت باعتراضات حتى من داخل البيت الحكومي (وزيرا النائب سليمان فرنجية قاطعا الجلسة)، والتهديداتِ بالانسحاب من الحكومة في إطار لعبة «شدّ الحبال» ورفْع السقوف لتحسين الشروط، متسائلة في الإطار عيْنه عن التداعيات المرتقبة لـ«تسييس» التعيينات المالية وتظهير ملء الشغور في المراكز الأربعة لنيابة حاكم مصرف لبنان على أنه من ضمن «تقاسُم الجبنة» بين القوى السياسية المكوِّنة للحكومة التي يشكل «حزب الله» قاطرة رئيسية لها، ولا سيما بعدما تمسّكت السلطة باستبعاد محمد بعاصيري وهو الذي كانت واشنطن أعطت إشاراتٍ إلى رغبةٍ في بقائه نظراً لارتياحها إلى الدور الذي لعبه في تنظيم تطبيق العقوبات المالية على «حزب الله» إلى جانب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي بات واقعياً «محاصَراً» في موقعه، وكأنه في… «بيئة غير صديقة».
ولم يكن عابراً في غمرة رصْد «حقل الألغام» الذي دَخَله الواقع اللبناني من الزاويتين المالية والسياسية والمرشّح للانكشاف على مزيد من الضغوط القاسية، ما كشفه وزير الطاقة ريمون غجر أمس، تعليقاً على مشكلة تأمين المازوت للسوق اللبنانية التي برزت في الفترة الأخيرة من «اننا تعرضنا في هذا الموضوع لنكسات عدة، ومنها ما حصل قبل نحو أسبوعين لأننا لم نتمكن من فتح إعتمادات في مصرف لبنان في الوقت اللازم، إذ كانت هناك خطورة من أن تتعرض ناقلة النفط لحجز في البحر من قبل اليورو بوند هولدرز (في إشارة إلى حملة سندات اليوروبوندز التي أعلنت الحكومة في مارس الماضي تعليق سدادها) ونحن في صدد دراسة هذا الموضوع كي نصل في نهاية المطاف الى نتيجة تمكّن عدم تعريض الدولة اللبنانية الى هذا الأمر».