كتب إيلي الفرزلي في “الاخبار”:
لا توقعات متفائلة بالنسبة للكهرباء. من لم يبن المعامل في أيام البحبوحة لن يتمكن من بنائها أيام الإفلاس. لكن مع ذلك، تحاول وزارة الطاقة البحث عمن يستطيع تحمّل المخاطر. ذلك أمر يبدو متعذراً بالنظر إلى ظروف مالية وسياسية. أما الصين، فلا تزال خارج الحسابات، خوفاً من الغضب الغربي
الدولة اللبنانية تتحاشى الصين. خلاصة يستنتجها معظم من يلتقي مسؤولاً معنياً بمشاريع مطروحة للتلزيم، ولا سيما في قطاع الكهرباء. الفارق أن وزير الطاقة ريمون غجر يغلّف هذا الموقف بقرار حكومي، قضى بالتفاوض مباشرة مع الشركات المصنّعة للتوربينات الخاصة بمعامل إنتاج الكهرباء. هذا يعني بالنسبة إليه استبعاد الصين، تلقائياً، عن التفاوض، انطلاقاً من أن قرار مجلس الوزراء لا يسمح بالتفاوض مع متعهّدين. لكن الشركة الصينية التي راسلت الوزارة ليست متعهّدة فقط، بل هي تصنّع التوربينات أيضاً. ينتهي النقاش عند المواصفات التي حدّدتها الوزارة لهذه التوربينات، والتي لا تتناسب معها التقنية الصينية. بالنسبة إلى وزارة الطاقة، من يسعون إلى تلزيم الشركات الصينية هدفهم الأول هو مواجهة الغرب، وليس إيجاد من يموّل البنية التحتية اللبنانية. لكن بالنسبة إلى المهتمين بالعرض الصيني، فإن الأمر واضح: ثمة قرار بعدم إغضاب الغرب، حتى لو كان الثمن المزيد من العتمة.
سبق أن أقرّ مجلس الوزراء التفويض إلى وزير الطاقة التفاوض مع شركات «سيمنز» و«جنرال إلكتريك» و«إنسالدو» و«ميتسوبيشي»، لكن الواقع أن أياً من ممثلي هذه الشركات لم يحضر إلى لبنان، وأن هذه المفاوضات لم تبدأ بعد. تعكف الوزارة حالياً على تشكيل لجنة مؤلفة من وزارات الطاقة والمالية والبيئة، إضافة إلى رئاسة الحكومة وكهرباء لبنان، مهمتها وضع إطار للمفاوضات، بالتعاون مع استشاري دولي. وبالفعل، تواصل وزير الطاقة مع الجهات المعنية لاختيار من يمثّلها في اللجنة، فيما يبحث في العروض التي قدمت، تمهيداً لاختيار الاستشاري الدولي، الذي ستكون مهمته البحث مع الشركات في تفاصيل عروضها.
مذكّرة التفاهم التي أقرّها مجلس الوزراء لتوقيعها من قبل الشركات، لن توقّع قريباً. الأمر قد يحتاج إلى ستة أشهر أو أكثر. التفاوض على الشروط التقنية والفنية والإدارية والقانونية والمالية سيسبق التوقيع. الهدف توحيد إطار العروض، بما يضمن أن تكون كلها متسقة مع المعايير التي وضعت في مذكرة التفاهم، وبما يسهّل المقارنة بين هذه العروض. بعد ذلك، يفترض أن يعود غجر إلى مجلس الوزراء لإطلاعه على ما توصّلت إليه اللجنة. تلك آلية مناقضة للأصول، بحسب مصدر قانوني مطّلع، يدعو إلى العودة إلى إجراء مناقصة، على أن يتقدم من يشاء إليها، إذا كان يلتزم بالشروط التقنية. لكن لوزارة الطاقة رأي آخر. غجر يخشى هدر الوقت على إجراء مناقصة، تنتهي بالتوقيع مع فائز ما، من دون أن يكون هنالك قدرة على التنفيذ، بسبب تعذر التمويل. يستشهد بمشروعَي «هوا عكار» و«دير عمار 2» اللذين لم يبدأ العمل بهما بعد، لأن الشركة المعنية تشترط الحصول على ضمانة سيادية، وفتح اعتمادات لستة أشهر، وحق التصرف بالأرض… تلك شروط لا يمكن تلبيتها راهناً، علماً بأنه حتى لو تحقق ذلك، فلن يكون من السهل الحصول على التمويل، لأن المصارف أو المؤسسات الأجنبية لن تثق بضمانة تقدّمها دولة مفلسة. مسألة سعر الصرف ساهمت عملياً في توقّف أغلب المشاريع. في وزارة الطاقة وحدها، نحو ٢٥٠ مشروعاً توقّف العمل فيها، بالرغم من توقيع العقود، لأن لا أحد من المتعهّدين (مياه وكهرباء وصرف صحي) مستعدّ للحصول على أمواله على أساس السعر الرسمي للدولار. ليس للوزارة القدرة على حل تلك المشاكل، لكنها تسعى إلى تأمين جزء من الاعتمادات المتعلق بالصيانة، عبر مصرف لبنان، بما يسمح بصمود الشبكة. مع ذلك، يوماً بعد يوم تكبر الخشية من توقف قد يطال المنشآت الحيوية.
ما العمل إذاً؟ حتى اليوم، لا حلول مجتزأة. أزمة سعر الصرف تنعكس على كل القطاعات. هذا يقود أيضاً إلى توقّع فشل المفاوضات مع الشركات المهتمة ببناء معامل الكهرباء، حيث لن يكون بالإمكان إيجاد من يدفع مليار دولار مع شكوك في تحصيلها. يسأل مصدر صار مقتنعاً بأن لا أحد غير الصين مستعد للتمويل، كيف تراهن وزارة الطاقة على شركة «سيمنز»، متوقعة الحصول على تمويل ألماني، فيما مصارف ومؤسسات مالية ألمانية تحمل جزءاً من سندات اليوروبوندز التي تخلّفت الدولة اللبنانية عن دفعها؟
المشكلة السياسية لا تقل أهمية عن المشكلة التقنية. لمؤسسات التمويل ما يبرر إحجامها عن تمويل مشاريع في لبنان، لكن ذلك وحده لا يكفي. إذا أرادت أميركا أو أوروبا دعم لبنان في محنته، فهي ستشجع مؤسساتها على تمويل المشاريع الحيوية. تجربة تمويل مشروع «هوا عكار» لا تزال ماثلة. في تشرين الثاني خرج مجلس إدارة بنك الاستثمار الأوروبي ليعلن موافقته على تمويل شركتي «Sustainable» و«Lebanon Wind Power» (جزء من تجمّع «هوا عكار») بقرض بقيمة 120 مليون دولار، يُسدّد على مدى 18 سنة. كذلك، أعلِنَ حينها أن مؤسسة «أوبيك» (Opic) الأميركية للتمويل وافقت بدورها على المساهمة في تمويل المشروع («الأخبار»، 27 تشرين الثاني 2019). التمويل توقّف من المؤسستين، وهنا لا يكفي أن يقال إن السبب شكوك في قدرة لبنان على التمويل. «أوبيك» تعرّف عن نفسها بأنها تساهم في «دفع السياسة الخارجية الأميركية وأولويات الأمن القومي». هذا يعني أن التمويل كان قراراً سياسياً، وتوقيفه هو قرار سياسي أيضاً، حتى لو كان له ما يبرره تقنياً.
في النتيجة، وبصرف النظر عمّا إذا كان لبنان يتعرض لحصار غربي غير معلن أو إذا كان الإحجام الأوروبي عن التمويل يعود إلى انهيار الثقة بلبنان، فإن النتيجة واحدة: كل مشروع سيكون مشكوكاً في تنفيذه. يقول غجر إن سبب رفضه إجراء مناقصة في الوقت الراهن وتفضيله اللجوء إلى المفاوضات مع الشركات، هو عدم تكرار المشاكل السابقة، بحيث يتم توقيع العقد ثم يأتي وقت التمويل فيتعثّر المشروع. في الآلية التي وافق عليها مجلس الوزراء، سيتم التحقق من أمرين قبل العودة إلى مجلس الوزراء: الالتزام بالشروط التقنية وبشروط التمويل.
يدرك غجر أن الآلية تلك مرفوضة من صندوق النقد، الذي يضع ثلاثة شروط تتعلق بقطاع الكهرباء: اعتماد آلية شفّافة لشراء الطاقة، تعيين مجلس إدارة لكهرباء لبنان وتعيين هيئة ناظمة. تعيين الهيئة الناظمة معلّق على تعديل القانون الرقم 462، فيما يقول غجر إنه لن يتأخر قبل تحويل الاقتراح إلى مجلس الوزراء. تبقى مسألة الشفافية، والمقصود هنا إجراء مناقصة شفافة.
مشكلة غجر مع هذه النقطة أن «أحداً لم يقل لي إنني إذا أجريت مناقصة سيتحمّل المسؤولية، بحيث لا تنتهي المسألة بتوقف المشروع بسبب عدم وجود تمويل». يريد ضمانة بتطبيق المناقصة إذا أجراها، بحيث لا ينتهي الأمر بوقف التنفيذ بسبب غياب التمويل. لكن، مرة جديدة يتجاهل غجر العرض الصيني، بحجّة أن شروط التمويل لا تختلف عن الشروط الغربية. في المقابل، يؤكد مصدر مطلع على العرض الصيني أن الشروط أقل بكثير. يكفي أن الضمانة السيادية ليست مطلوبة، بل تعهّد بالدفع من قبل وزارة المالية. الهدف الصيني واضح. إذا كان لبنان في أزمة حالياً، فإنه لن يبقى كذلك إلى الأبد، وبالتالي فإن الدخول في عقد لعشرين سنة، لا يمكن مقاربته بالمعطيات الحالية حصراً.