كتبت إيلده الغصين في صحيفة “الأخبار”:
لا دليل على «فضاوة» السلطة التي تعتقد «من فوق» أن المجتمع بخير وأنها أدّت فروضها في تأمين أبسط حاجات المواطنين، سوى تلويحها بملاحقة كل ناشط أو مدوّن على مواقع التواصل الاجتماعي. تفرّغت السلطة، كما تُظهر سلسلة تصريحات أمس، لملاحقة مقلقي «راحة» المجتمع والمتعدّين على الممتلكات والشخصيّات العامة بـ«غير وجه حقّ». الحياة سعيدة و«المخرّبون» ليسوا سوى ناقمين على البحبوحة والرغد والهناء الذي يعمّ البلاد، ولا سيّما وسط العاصمة بيروت. «الأخ الأكبر يراقبك». هذه العبارة التي لاحقت ونستون سميث في رواية «1984» لجورج أورويل، في عالم من الخراب والفساد… تستعيدها السلطة اليوم، مع فارق بسيط، هو اعتقادها بأن مواطنيها يعيشون في «مدينة فاضلة» وليسوا سوى ناقمين من دون أسباب.
تصريحات كل من رئيس الجمهوريّة عن «حملة توقيفات»، ورئيس الحكومة عن «الزعران والتخريب المنظّم» في اجتماع مجلس الدفاع الأعلى أمس، تزامنت مع تكليف النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات قسم المباحث الجنائية المركزية بـ«مباشرة التحقيقات حول هوية الأشخاص الذين عمدوا إلى نشر تدوينات وصور تطال مقام رئاسة الجمهورية بالقدح والذم والتحقير». التكليف من صلاحيّات عويدات سنداً إلى قانون العقوبات، وتحديداً المادة 384 التي تعاقب «من حقّر رئيس الدولة بالحبس من ستة أشهر الى سنتين»، لكنّه منفصل عن الأزمة التي تهدّد خبز المواطنين.
الاستدعاءات تأتي سنداً إلى مواد يصفها حقوقيّون بـ«منتهية الصلاحيّة»
تشديد الخناق، عبر عشرات الاستدعاءات المرشّحة للازدياد، يأتي سنداً إلى مواد يضعها حقوقيّون في إطار المواد الـ«منتهية الصلاحيّة» والواجب إلغاؤها. «المواد المتعلّقة بالتحقير والقدح والذم وإثارة النعرات الطائفيّة، مخالفة للعهد الدولي للحقوق المدنيّة والسياسيّة الذي صادق عليه لبنان، وتتناقض تماماً مع حريّة التعبير كحقّ مطلق يكفله الدستور اللبناني وشرعة حقوق الإنسان»، وفق المحامي فاروق المغربي في اتصال مع «الأخبار». العهد الدولي «يسبق في الهرميّة، مثل أي اتفاقية دولية وقّع عليها لبنان، الدستور والقوانين وفقاً للمادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنيّة». وعليه، فإن «توصيات لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحّدة الناظرة في تطبيق العهد، عبّرت عن قلقها من الاستدعاءات المتكرّرة في قضايا القدح والذم بحقّ سياسيين ومسؤولين، وأوصت بإلغاء هذه المواد من قانون العقوبات»، بحسب المغربي، كما أن «المقرِّر الخاص لحريّة التعبير والمعتقد في الأمم المتحدة وجّه انتقاده لاستدعاء الناشطين في لبنان على خلفيات القدح والذم». هذه التوصيات غير الملزمة، تُضاف إلى 4 توصيات بشأن قضايا التعذيب، يتجاهلها لبنان. ويشدّد المغربي على «ضرورة إلغاء كلّ المواد المتعلقة بالمس بكرامة الرؤساء، وتحقير أشخاص الدولة والمسؤولية العامة وإثارة النعرات الطائفية والتعرض للديانات… إذ هي مواد فضفاضة وولّى عليها الزمن، وجاءت في قوانين وُضعت في القرن الماضي ولم تعد الدول تطبّقها بشأن أي شخصيّة عامة يفترض بها القبول بأي نقد يطاولها».
عدم شمول قانون المطبوعات، وفق اجتهاد سابق لمحكمة التمييز، الجرائم الواقعة على مواقع التواصل الاجتماعي وإحالتها أمام القاضي المنفرد الجزائي، إلى عدم وجود قانون يرعى النشر الإلكتروني… كلّها وقائع لا تغني وفق المغربي عن أولويّة «تحديث قانون المطبوعات وإلغاء المحاكم الاستثنائيّة مثل محكمة المطبوعات والمحكمة العسكرية، وعقوبات الحبس للصحافيين، والتقاضي أمام القضاء المدني العادي بدلاً من قضاة التحقيق».
لا عقاب على التعذيب والإخفاء القسري
مئات الاستدعاءات والاعتقالات، منذ احتجاجات 17 تشرين إلى اليوم، سجّلتها الأجهزة الأمنيّة وانتقصت خلالها من حقوق الموقوفين المدنيّة، كما مارست الإخفاء القسري والتعذيب في عدد من الحالات الموثّقة. كلّ ذلك من دون التزام بالمادة 47 من أصول المحاكمات الجزائيّة التي تمنح الموقوف حق مقابلة محامٍ والتواصل مع ذويه وطلب طبيب شرعي، ولا بالمادة 38 من القانون نفسه التي تحدّد أشخاص الضابطة العدلية. وبمخالفة فاضحة لقانوني معاقبة التعذيب (الرقم 65/ 2017) والإخفاء القسري (الرقم 108/ 2018)، اللذين ثبت أن عدداً من القضاة يتجاهل إقرارهما. تمثّل تجاهل القضاء والسلطة لهذه الممارسات بقرارين، الأول بحفظ معاونة مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة القاضية منى حنقير لـ15 شكوى تعذيب وإخفاء قسري تقدّمت بها لجنة المحامين للدفاع عن حقوق المتظاهرين، والقرار الثاني بتكليف مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس، فرع التحقيق في مخابرات الجيش بإجراء التحقيقات بشأن ادعاءات موقوفين بتعرّضهم للتعذيب لدى الفرع نفسه.