كتب النائب السابق فادي كرم في “الجمهورية”:
قد يستطيع البعض من المُحلّلين والسياسيين تحميل مسؤولية الوصول بِلبنان للواقع الحالي المرير إلى جميع الأفرقاء السياسيين الذين شاركوا بصناعة السلطة الحالية، وأمّنوا شروط “التسوية الرئاسية”، التي سمحت للانهيار أن يصبح واقعاً وقدراً، شاملين بذلك الأفرقاء الذين كان لهم الدور المحوريّ بصناعة هذه السلطة فأُصيبوا لاحقاً بالخيبات، واستُهدفوا منها بمحاولات العزل والاستبعاد.
فبالحسابات السياسية العادية يجوز هذا الأمر لأنّ المحاسبة على الخيارات تعتبر ركيزة من ركائز الأنظمة الديمقراطية الصحيحة، ولكنّ الموضوعية في التحليل تقتضي أن نُقارب الموضوع آخذين بالاعتبار الواقع الوطني المُرافق للقرارات والخيارات، والمُتمثّل بالواقع اللبناني السياسي المُغاير لدول العالم الحرّ، الذي يدور فيها الصراع حول برامج مستقبلية ومشاريع تنموية، ويُخاض فيها التّنافس حول تطوير المجتمع وتحسين أوضاعه. فبمجرّد اعتماد قاعدة المحاسبة السياسية من دون النظر الى الواقع، يعني أنّ التحليل يفتقد للمعرفة الدقيقة بشؤون الوطن ويبتعد كليّاً عن واقع المعادلات السياسية لوطنٍ مُعقّد سياسياً ومُركّب اجتماعيّاً. ولذلك، فالمسؤول اللبناني السياسي يحتاج للكثير من التعمّق في العلاقات الداخلية التي تتمّ عادةً بحسب تفاهماتٍ مصيرية ووجودية تتداخل معها الأهداف السياسية الصغيرة، السلطوية، والإستغلالية والفئوية، تحت مسمّى “الديمقراطية التوافقية”، المُحتكِمة دائماً لسياسة “الإطفاء”. وإنّ استمرار أي محلّل أو سياسي بإثارة هذه الحسابات المرحلية بهدف الإحراج والمزايدة، سيضعه لاحقاً أمام أزمة الصدقية، عند دخوله إلى الحكم، ليُضطرّ عندها لقبول الواقعية والتفاهمات المُشابهة والتخلّي عن شعاراته الحالية، كما فعل قبله من مزايدين بشعارات إصلاحية لم يلتزموا بها.
هذا لا يعني أبداً أنّني أناصر سياسة الإستسلام والإعتراف بالواقع الفاشل كمسار سياسيّ ثابت، بل بالعكس تماماً، لأنني أعتبر أنّنا بحاجة الى عمق ودراية وفعالية لمعالجة مشاكلنا الحقيقية، بدءاً من تشخيصٍ للعلّة الأساسية التي تُؤدّي إلى تفجير كافة الأزمات الوطنية في القطاعات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية، ومن المعيب والمُميت أن نضع اللوم على ملفٍّ واحد أو أكثر، كما الاكتفاء بوصف الواقع الحالي السيّئ. لِذا، سأتطرّق في مقالتي هذه إلى الأسباب الفعلية التي أوصلتنا الى قدرنا الحالي، وإلى قدرتنا كشعبٍ على التّأثير على القدر. فقناعتي الواضحة هيَ بضرورة معالجة المرض الأساسي كي نستطيع التخلّص من عوارضه كافّة، ونتيجةً لِهذه القناعة أرفض نظرية تحميل مسؤولية الإنهيارات للمؤامرات الخارجية المفترضة، وأعتبر أنّ صاحِبَ هذه النظرية، مُتخلّف فكريّاً، ومُتخاذل عملياً، ومُتآمر وطنياً.
فمُتخلّف لأنّه ينتمي الى فكر سياسي فاشل، حكمَ في القرن الماضي شعوباً عديدة، فاعتقلها في معسكراته المظلمة، وقتل الحريّة والطموح عندها. ومُتخاذل لأنه ينتمي الى فكرٍ ريعيّ لم ينجح يوماً بوضع المجتمعات في مسار التطور والرُقيّ، بل حقّق دائماً أهدافه بتدجين المواطن وتطويعه لحُكمه. ومُتآمر لأنّه ينتمي الى فكرٍ مُعادٍ لوطن الأرز، وطن الحريّات والعيش الإنساني الكريم، فعقيدته المُتزمّتة والمذهبية والمُؤدلجة تعتبر النموذج اللبناني العائق الأساسي لتركيع الشعب وتشريبه لِثقافته.
إذاً، ما يتجاذبنا اليوم، ثقافات لكلّ منها واقعها الفكري وقدرها الحتميّ، فَلبنان ما قبل الحرب الأهلية الذي حُكِم من ذهنية العيش الحرّ المؤمن بالإنسان، بالرغم من افتقادِه حينها للكثير من عوامل النجاح لبناء الدولة الحقيقية، قد مرّ لاحقاً بمراحل من الإحتلالات المختلفة التي قضت على حكمه الحرّ، وأحَلّت مكانه حكماً قمعيّاً تسلّطياً، متعاملاً، أذَلّ المواطنين وأخضعهم لجبروتِه الإجرامي، ولم يعمل على الإستفادة من إنتاجيّة الشعب ومن إدراكهم لمعنى المواطنية الصحيحة. ذلك التغيير الجذريّ في كيانيّة لبنان، لم ينحصر في المؤسسات الرسمية للدولة، بل تسلّل إلى ذهنية فئات الشعب اللبناني، وأصاب فئة طالما شكّلت سدّاً منيعاً ومقاوِماً للأفكار الرجعية، التأميمية، التّسلطيّة، البوليسية والزبائنية.
لِسوء طالع وقدر مؤامرة الإحتلال الفكري ومحاولات تدجين اللبنانيين، فإنّ تَمايُز هذا المجتمع وتركيبته المتعدّدة كانت كفيلة بإفشال مُؤامرة التغيير الكاملة في الثقافة الوطنية. فالمجتمعات المركّبة تتمتّع عادةً بمناعة ذاتية لا تتواجد في المجتمعات المُتجانسة. المجتمعات المُركّبة تُعاني مع ذاتِها ولكنّها تُقاوم خارجها، والمجتمع اللبناني المُركّب تتأثّر فئاته بشكل مختلف مع الأحداث والتطوّرات، ودخول الأفكار الغريبة عليه لا تكون متشابهة التّأثير ولا سهلة الهضم، فكما انه من المستحيل توحيد الشعب اللبناني في خندق واحد خلف قضية وطنية واحدة، فمن المستحيل أيضاً رَصّه في بوتقة فكرية واحدة، مؤدلجة وموجّهة.
يشهد التاريخ اللبناني القريب على هذه النظرية، عندما استطاعت فئة من فئاته تشكيل نواة “التحرّر” من السلطات التي استسلمت للتّدخلات الخارجية لِأنظمة رجعية، مذهبية وفئوية، ولإغراءاتها الكثيرة.
هذه الفئة السياسية المُتحرّرة، والمُتجذّرة في التاريخ والجغرافيا اللبنانية الحرّة، إستطاعت دائماً أن تفصل بين القناعات المبدئية والضرورات السياسية، فحافظت بمبدئيّتها على هويّتها، واستفادت من حكمتها لتمرير الظروف المُعاكسة. وبرفضها ونضالها وصلابتها أنقذت المجتمع اللبناني من الغزوات ومن الإحتلالات، وأعادت له كرامته وحريّته التي خسر الكثير منها خلال الفترات المشؤومة.
هذه الفئة هي المقاومة اللبنانية، التي استبسلت عندما تعرّض لبنان لغزوات همجيّة مُستغلّةً قوى داخلية مخدوعة، المقاومة التي صمدت بنضالها السريّ أمام مُحتلّ مُتمكّن بفضل بعض اللبنانيين المتعاملين، المقاومة التي عادت إلى الحياة الطبيعية بعد زوال الإحتلال، لِتبقى مُستهدفةً من البعض بسبب تمايُزها وإصلاحيتها وجرأتها واستقلاليّتها، المقاومة اللبنانية التي تمثّلت مؤخّراً بتكتلات نيابية ووزارية فعّالة وشفّافة وجديّة، فهذه المقاومة كانت خياراً وقناعة، فقدرْاً، ونقيضاً للخيار الآخر الذي شنّ الحروب العبثية المدمّرة، المترافقة مع مفاوضاتٍ سريّة مع المُعتدي، والنقيض لخيار الهروب وتسليم الحكم والناس والوطن للمحتلّ، والنقيض للعودة إلى الوطن المكلّلة بالتسويات الخبيثة مع السلطة حينها، والنقيض للتمثّل سياسياً بتكتلات مستعارة من فريق إلغاء الوطن والمواطنية الحرّة، وكل ذلك كان أيضاً خياراً وقناعة، فقدراً.
لولا وجود الخيار المُناقض لتلك المقاومة اللبنانية، الذي استطاع غدرَ الشعب اللبناني وخداعِه بشعاراتٍ جميلة، لَما استطاع الاحتلال العسكري والفكري والثقافي التّسلل إلى الذهنية اللبنانية الحرّة، فالخيارات الأنانية الشخصية السلطوية لِنقيض المقاومة اللبنانية سمحَت لِهذا الأمر، واليوم يدفع الشعب اللبناني الأثمان من حياته بسبب تلك الخيارات الخاطئة والقناعات السيئة والأهداف المرحلية والشعارات الكاذبة.
مُستقبلنا، ملكٌ لنا، فإمّا هو مُشابه لِما نعيشه حالياً، وإمّا هو قدر كالشعوب الناجحة الحرّة، الشعوب المشاركة في رسم المسارات الإنسانية. شعوب قدرها مُشابه للشخصية اللبنانية الطموحة والمتطوّرة والمتحرّرة والبنّاءة.
قدرٌ نابع عن الخيارات الصائبة، لشعبٍ أدرك أهمية خياراته وخطورة أخطائه، قدرٌ لشعبٍ فَهِمَ معنى مرارة فشله، فبات قدره اليوم هو فشله البارحة، أما قدره الغد فهو انتفاضته اليوم، لا على نفسه فقط، بل أيضاً على ذهنية السلطة الحالية التي خدعته البارحة، فتخلّت عن فرص الإصلاح وحافظت على “الدولة المزرعة”.
القدر الحلّ، هو خيار التغيير للعقلية الحاكمة وليس الإكتفاء بتغيير الحاكم الحالي.