كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
كانت هناك فرصةٌ لتجنُّب أن ينسحق لبنان، في الطاحونة ذاتها التي ستنسحق فيها سوريا. لكن حكومة الرئيس حسّان دياب والقوى المتحكّمة بها شاءت أن ينسحق لبنان مع سوريا، فتتكرَّس وحدة المسار والمصير… في الخراب.
على مدى سنوات، بقي كثيرون يعترضون على أنّ حاكم مصرف لبنان المركزي يخبّئ أرقامه الحقيقية. لكن هؤلاء أنفسهم يخبّئون أرقاماً ووقائع أخرى تضاهي ذلك أهمية، ومنها أرقام التهريب عبر المعابر والجمارك والتهرُّب الضريبي وطريقة عبور بعض الأموال في القطاع المصرفي وخارجه.
وعلى الأرجح، الجميع يعرف أرقام الجميع. لكن تقاطع المصالح بين أصحاب النفوذ كان يقضي بالسكوت عن الموبقات كلها: «هذه مقابل تلك». وعندما انحشر الجميع، وانكشفت اللعبة، اضطر كل طرفٍ إلى إنقاذ رأسه ورمي كرة النار على الآخرين. وللمرّة الأولى، انكشفت حقيقة أرقام المصرف المركزي. وكذلك، انكشف لغز التهريب عبر الحدود مع سوريا.
القوى النافذة كانت تقول إنّ ماكينة التهريب قوامها أفراد لبنانيون وسوريون موجودون على طرفي الحدود، كما هي الحال طبيعياً في المناطق الحدودية بين دول العالم، وهؤلاء يستخدمون المعابر غير الشرعية لتهريب المحروقات والطحين، والمعابر الشرعية أيضاً لتهريب الدولارات إلى سوريا، وإنّ ضبط عمليات التهريب أكبر بكثير من قدرة القوى والأجهزة اللبنانية الرسمية والحزبية، بل شبه مستحيلة.
في الانهيار، بدأت تنكشف الأرقام والوقائع كلها: في المصرف المركزي، رياض سلامة «بقّ البحصة». وفي مسألة التهريب ظهرت الأمور على حقيقتها. والصدمة هنا لم تكن تقلّ وقعاً عن الصدمة هناك:
بوضوح، تبيّن أنّ جزءاً من «نكبة» المصرف المركزي سببُها تهريب الدولارات والمواد المدعومة إلى سوريا. واضطرت الأوساط اللبنانية الحليفة لدمشق إلى الاعتراف أخيراً: نعم، نحن موافقون على عملية التهريب من أجل تخفيف الضغط عن نظام الرئيس بشّار الأسد. وكل مَن يحاول تعطيلها سنعتبره جزءاً من المشروع الأميركي.
إذاً، بعد اليوم، لا لزوم لاستهلاك الوقت في التفاوض مع صندوق النقد الدولي. هو يصرُّ على أن لا مساعدات من دون إصلاح، وأن لا إصلاح من دون ضبط التهريب. ولأنّ وقف التهريب هو «خطّ أحمر» بالنسبة إلى «حزب الله»، يصبح محتوماً أن لا إصلاح متوقَّعاً ولا مساعدات، لا من صندوق النقد، ولا طبعاً من «سيدر» ولا أي جهة أخرى.
يعني ذلك أنّ لا فرصة إطلاقاً لخروج لبنان من الحفرة، وأنّ الأيام المقبلة ستكون مريرة جداً، وأنّ كل المحاولات لإمرار الوقت «مجاعة الحدّ الأدنى» و»تقطيع» الشهور الصعبة الفاصلة عن الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني المقبل، ستكون عبثية.
ستحاول قوى السلطة خنق الغضب الشعبي أو تنفيسه أو استيعابه كما فعلت دائماً. وهي لذلك دفعت بأنصارها إلى ساحات الانتفاضة وقامت بممارسة الشغب. لكن المحاولة قد لا تنتهي على خير، وقد تتحوَّل صِداماً أهلياً بين مجموعات من الجائعين والمحبَطين… المتعصّبين طائفياً ومذهبياً. أي، سيكون هذا الصِدام داخل برميل من البارود. وطبيعي أن يقوم بعض القوى باستثمار هذا المناخ في النزاع الإقليمي، وخصوصاً الأميركي- الإيراني:
سيتحسَّس «حزب الله» أنّ المحور الأميركي الذي لم يستطِع تصفيته عسكرياً يسعى إلى إلحاق الهزيمة به من خلال الاقتصاد والمصارف والليرة والإصلاح. ولذلك، سيتصلّب في رفض أي تنازل يتعلّق بمصادر تمويله، سواء في لبنان أو بين لبنان وسوريا، ولو كشف أنّه يعرقل الإصلاح.
في المقابل، يتشدّد الأميركيون. وقد بدأوا يخرجون من وضعية «تحذير لبنان» إلى وضعية «الحصار». فمنذ مجيء إدارة الرئيس دونالد ترامب، قبل أكثر من 3 سنوات، بعث الأميركيون برسائل تحذيرية متلاحقة إلى لبنان، لكن العقوبات لم تستهدف سوى كوادر «حزب الله» ومؤسساته ومصادر تمويله.
أما اليوم، فبدا واضحاً أنّ واشنطن تخلّت عن الحصانة التي كانت تحوط بها الدولة اللبنانية ومؤسساتها وأجهزتها. وهذا التحوُّل يعني كثيراً. وبدأت تظهر مؤشراته تباعاً من خلال الآتي:
1 – في الخريف الفائت، أوعز الأميركيون إلى حلفائهم والجهات المانحة في العالم بوقف مدّ لبنان بالمساعدات حتى إقرار «الإصلاح»، بما في ذلك تحرير السلطة من قبضة «حزب الله».
2 – لم يلتزم لبنان بالإصلاح، فبدأ الأميركيون الضغط لقطع أقنية تمويل «الحزب» وفرض عقوبات محدّدة على كوادره ومؤسساته، والتحذير من توسيع العقوبات لتشمل حلفائه في السلطة.
3- اليوم، ينمو مناخ في واشنطن يدعو إلى أخذ لبنان كلّه بجريرة «حزب الله» وفرض عقوبات على الدولة اللبنانية، لأنها تؤمِّن التغطية لـ»الحزب». وفي هذا السياق، يندرج «قانون قيصر»، الذي سيبدأ تنفيذه في الساعات المقبلة ضد سوريا، والذي بدأ يترك تداعيات مريعة في الواقع الاقتصادي والمالي والنقدي في سوريا.
سيقاتل «حزب الله» للدفاع عن نظام الأسد، في وجه «قيصر»، كما دافع في الحرب. وهو إذ قدّم نخبة مقاتليه لمنع سقوط النظام، فليس كثيراً أبداً أن يقدِّم إليه العملات الأجنبية والمواد المدعومة من احتياط المصرف المركزي، لكي يتمكن من الصمود.
وثمة مَن يعتقد أنّ هناك جزءاً من الـ4 او 5 ملايين دولار يومياً، التي باشر المركزي ضخَّها في سوق الصرافين، بدءاً من يوم أمس، قد تذهب في النهاية إلى سوريا، حيث يوزِّع المحور الإيراني موارده وموجوداته وقواته في شكل متوازن، ليدافع عن «كياناته»، من اليمن والعراق إلى سوريا فلبنان. فالمطلوب من هذا المحور أن يصمد لإمرار الخريف الآتي.
المطلعون يقولون: «ليس المقصود تحديداً تشرين الثاني موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. بل خصوصاً 17 تشرين الأول 2020، الموعد الذي فيه ينتهي القرار الدولي 2231 الذي يحظّر على إيران شراء أسلحة».
الأميركيون يتوقعون معركة صعبة جداً حول هذا القرار في لحظة انشغالهم بالانتخابات. وبالتأكيد، سيسارع الصينيون والروس إلى تزويد إيران بالسلاح لضرورات تجارية وسياسية، وليس واضحاً موقف الأوروبيين. وإذا انهزمت إدارة ترامب في هذه المواجهة، فستعتبر إيران أنّها نجحت في تحقيق أكبر انتقام من الأميركيين، منذ انسحابهم من الاتفاق النووي.
لذلك، المحوران يضغطان بقوة لأنّ الوقت داهم: الإيرانيون والأميركيون. والأرجح، أنّ قانون «قيصر» سيكون ساحقاً في سوريا. ومن سوء أقدار لبنان أنّه سيدفع بنفسه خارج الحصانة الأميركية المعتادة، وسيضع عنقه تحت المقصلة، لتتحقق بينه وبين سوريا وحدة المسار والمصير، التي لطالما كانت نتائجها عليه كارثية.