Site icon IMLebanon

جولة “قيصر” في جهنّم سجون سوريا الحمراء!

كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:

17 حزيران 2020. تذكّروا هذا اليوم جيداً. تذكروا جوني وكريكور وجورج وحسين وهشام وأسامة ومحمد وأحمد، وعبدالله وسمير وألبير وهيثم وعبد الناصر وطوني، وفهد ومروان وسايد وبطرس خوند وسمير كساب… واللائحة تطول وتطول. وفي آخر نفق ملف المعتقلين في السجون السورية بقعة ضوء. اليوم، يبدأ تنفيذ قانون قيصر ولكم فيه ما قاله يوليوس قيصر ذات يوم: لقد جئت الى الحياة ورأيتها وحاربت وانتصرت. أيها المعتقلون في السجون السورية “ميتين طيبين بدنا ياكم”.

أمهات كثيرات أنهكهنّ الإنتظار الطويل وقرّرنَ الذهاب الى حيث لا حواجز ولا أقبية ولا سجون، ولا فظائع ولا قهر وتعب وتعذيب واشتياق. نساء كثيرات انتقلنَ الى الحياة الأبدية بعدما فقدنَ كل أمل بلقاءِ إبن وزوج وأب وروح. وكثيرون ملّوا من كثرة تذكير، من يفترض أن يتذكروا، بأن 628 لبنانياً ما زالوا في أقبية التعذيب السورية من زمان، لكن لا حياة لمن تنادي. عمرٌ مضى وهم يتمسكون بخبرٍ من هنا أو من هناك كما الغريق الذي يتمسك بقشة. وها قد أتى اليوم ليعود ويُشرّع ملف المعتقلين من بوابة أحرار سوريا. فهل سيكون انتظارهم المتجدد مجدياً أم سيكون مجرد جرعة مورفين في ملفٍ حزين؟

علي أبو دهن، رئيس جمعية المعتقلين في السجون السورية، الذي أمسك بالملف بالقلب والروح لا باليدين وهو الذي عاش في جهنم، في السجون السورية، ويدرك حجم الإهمال فيه، يرى أن قانون “قيصر” هبط من السماء وأفضل ما حصل في الملف حتى الآن، وأعاد الأمل بانقشاع الحقيقة عن ملفٍ إنساني “جرجروه” في سكك المصالح والحسابات والإهمال، علّه يذبل لكنه استمرّ نابضاً بنبضِ الأمهات. علي أبو دهن “مبسوط” جداً لكن، في قرارة نفسه بعض الخوف من حدوث اتفاق ما ينسف هذا الأمل.

قانون “قيصر” يتضمن في بنوده وجوب إطلاق النظام السوري سراح جميع المعتقلين. هو يبدو حاسماً في هذه النقطة. والسؤال، كيف ستتابع جمعية المعتقلين في السجون السورية مرحلة ما بعد 17 حزيران؟ الرجل الطيب علي أبو دهن أراد الإلتقاء، بمسعى من نزار زكا، بالشاب السوري عمر الشغري، الذي برز اسمه كأحد الشهود الأساسيين لتوثيق تعذيب نظام الأسد للسجناء، إنما اللقاء لم يحصل، لكن الجمعية أعطت من يعملون على قانون “قيصر” أسماء وتفاصيل 628 لبنانياً اعتقلوا في غياهب تلك السجون الفظيعة إجراماً، ودولتنا، على مرّ الأعوام، تنازلت عنهم. ماتوا؟ نريد جثثهم. ما زالوا أحياء؟ فليُكشف النقاب عنهم. آن الأوان لذلك.

هل آن الأوان فعلاً لذلك؟ هل نترك الأمهات يأملنَ من جديد؟

يبدو عمر الشغري (25 عاماً) الموجود في الولايات المتحدة الأميركية واثقاً جداً من نفسه. نسأله عن هذه النقطة فيجيب: “السجن بيعلّم”. ثلاثة أعوام (2012 حتى 2015) قضاها في فرع 215 في كفرسوسة، وفي فرع 248 في القابون وفي فرع 291 وسرية المداهمة والإقتحام وفي سجن صيدنايا. ثلاثة أعوام في جهنم النظام السوري، ولد بعدها من جديد في مثل هذا الشهر من العام 2015، في الحادي عشر من حزيران بالتحديد، يوم أخذوه ليصفّوه لكن تمّ إطلاق النار الى جانبه بعدما أخذ السجانون 20 ألف دولار من والدته. تظاهروا أنهم “قوّصوه” وغادروا. وها هو اليوم أحد صنّاع قانون “قيصر”.

عمر مطمئن الى المرحلة التالية “لأن القانون مرتبط بعقوبات أميركية وهو سيمنع النظام السوري من إعادة الإعمار، ريثما يفرج عن جميع المعتقلين في سجونه بغض النظر عن جنسياتهم. ويستطرد: قانون “قيصر” يأمر الإدارة الأميركية بدعم المنظمات والهيئات التي توثّق للإنتهاكات”.

هو يعرف، مثل الجميع، أن هذا القانون لن يؤثر على المواطنين السوريين لكنه سيؤثر على الدول المجاورة ويقول: “ثمة ارتباط وثيق بين الإقتصادين اللبناني والسوري. ثمة غسيل أموال وتهريب يتم من لبنان الى سوريا، ما يجعلهما قالباً واحداً والعقوبات لا إطار جغرافياً لها، فهي ستكون على أي دولة تدعم النظام، وهي بفعلتها هذه تؤدي الى موت وهلاك المواطنين السوريين. لبنان يسيء الى المواطنين السوريين بدعم النظام السوري الذي قتل من قتل وعذب من عذب واعتقل من اعتقل. لهذا كلنا مدركون أن أكثر الدول التي ستتأثر بالعقوبات سيكون لبنان”.

لبنان سيتأثر كثيراً بقانون “قيصر”. وإذا كانت المؤثرات التي تلوح سلبية فهناك تأثير واحد سيكون إيجابياً وهو إعادة الحياة الى ملف ظنناه مات. أعاد قيصر مصير المعتقلين في السجون السورية الى الواجهة. والسؤال الذي طرحه عمر على نفسه: ماذا ربح النظام السوري من إبقاء المعتقلين اللبنانيين كل هذا الوقت في أقبيته؟ يطرح السؤال ويجيب نفسه: “إتّضح لنا أن لا مصلحة لهذا النظام بالإحتفاظ بهؤلاء المعتقلين، فهو على وئام مع النظام اللبناني، في حين أن الهدف من الإبقاء على ستة معتقلين أميركيين هو أن يساوم دونالد ترامب، وربما إطلاق سراحهم قبيل معركته الرئاسية الجديدة المقبلة من أجل “تبييض صورته”، أما المعتقلون اللبنانيون فلا يقدّمون أو يؤخّرون في روزنامة حكومتهم ودولتهم”.

كلام عمر قاسٍ لأنه يضيء على جانبٍ أسود من أسلوب تعاطي دولتنا التهميشي مع هذا الملف. في كل حال، هل رأى عمر معتقلين لبنانيين حيث كان؟ وهل يمكن لمعتقلين في سجون مثل سجون النظام السوري أن يصمدوا ويبقوا أحياء طوال ثلاثين عاماً من التعذيب؟ بكلام آخر، هل يمكن لأهالي المعتقلين أن يأملوا برؤية أولادهم بعد مرور كل هذا العمر؟

يجزم عمر بوجود لبنانيّين إثنين في الطبقة السادسة من فرع 215 في كفرسوسة، مضى عليهما أكثر من 25 عاماً هناك. قضية الرجلين ارتبطت بآصف شوكت ولا أحد، في لبنان، سأل عليهما. وكثيرون مثل هؤلاء انتهى بهم الأمر في غرفة الموتى. ويستطرد: حين يموت سجين نسمع السجان يصرخ: “كبّوه في غرفة الموتى”. هناك انتهت حياة الكثيرين ممن اتهموا كذباً بالإرهاب ونسوا، لقساوةِ التعامل، حتى أسماءهم. يتابع: مشكلتكم في لبنان أنكم لم تسألوا عن المعتقلين في شكلٍ جدي. لكن القانون أتى اليوم ليساعد في الإضاءة على هؤلاء.

عساه خيراً

ما رأي المحامي بسام الأحمد، الناشط في مركز توثيق الانتهاكات في سوريا وفي “منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في قضية المعتقلين في سجون جهنم السورية؟

الأحمد كان هو أيضاً سجيناً مدة ثلاثة أشهر في مركز المخابرات الجوية في مطار مزة العسكري، بتهمة العمل مع مركز توثيق الإنتهاكات، ويقول: هناك تعرضت الى الضرب والتعذيب لانتزاع الإعترافات ثم حولوني الى القضاء العسكري (…) يغص الأحمد وهو يتكلم عن تلك المرحلة ويقول: آلاف المعتقلين ماتوا في مراكز الإحتجاز، لكن هناك معتقلين ما زالوا أحياء يفترض المطالبة بهم. والأهالي هم أفضل من يقومون بذلك. والمنظمات الحقوقية سجلت هذه الانتهاكات ولم يكن هذا سهلاً أبداً بسبب وجود عشرات الأجهزة الأمنية. ويستطرد: لا أرقام محددة عن عدد المعتقلين في السجون السورية. هناك من يقول 200 ألف. وهناك من قال مليون معتقل. لهذا أفضل أن أقول مئات الآلاف لأن هناك من سُجل تحت خانة متوفٍّ وأصدرت الحكومات شهادات وفاة بهم وهم ما زالوا أحياء. نحن جماعة توثيق انطلاقاً من أدلة ومعلومات. لكن، لا أجوبة لدينا عن عدد من ماتوا أو من لا يزالون أحياء. سنتابع لتبيان كل الحقيقة.

علي ابو دهن يقول ان لنا، نحن اللبنانيين، في السجون السورية، 628 معتقلاً، لكن هناك أشخاصاً لم يعلنوا عن أسماء معتقلين فقدوا في سوريا والآن، بعد اقرار قانون “قيصر”، يطالبون بإعادة توثيق أسماء جديدة.

هل يملك عمر الشغري رقماً محدداً عن مجموع عدد المعتقلين في السجون السورية؟ يجيب 250 ألفاً وهم من جنسيات كثيرة ويقول: “أكثر الفظائع جرت في سجون فلسطين وصيدنايا وفرع 215. والمعتقلون اللبنانيون وُضعوا بمعظمهم فيها. ويستطرد: هناك يسخّرون المساجين بعد تعذيبهم. من يعِش سنة في تلك المعتقلات يعش عشر سنوات. فالأشهر الأولى هي الأصعب بعدها يعتاد الإنسان على الجحيم وأن في جهنم نيراناً مشتعلة. سجانو النظام يلعبون على الوتر النفسي لهذا يُصبح السجين يتمنى الضرب والتعذيب الجسدي ألف مرة، كي لا يغرق في الألم النفسي. هناك يطعموننا الفتات المغمس بدماء بعضنا، ويعملون على تدمير الثقة بين المساجين كي يستريح النظام.

هل علينا أن نثق هذه المرة بأن “نوراً” قد يسطع وانفراجاً قد يلوح بالفعل لا مجرد أقوال في ملف المعتقلين في السجون السورية؟

عمر يقول: من حقكم أن تقولوا أنكم لا تثقون “بالأميركان”، لكن ثقوا هذه المرة أن القانون وضعه مواطنون سوريون وعرب كانوا، بغالبيتهم، معتقلين ويعرفون حجم الألم الذي ما زال يعاني منه 250 ألف معتقل وأكثر. هؤلاء يتعاونون مع وزارة الخارجية الأميركية ووزارة المال وروابط أخرى. ومدة هذا القانون خمس سنوات. نتمنى ألا ننتظر كل هذه المدة لنعرف مصير هؤلاء.

قبل أن نقفل الموضوع يُخبرنا عمر أنه حزين على لبنان حزنه على سوريا ويقول: نحن حريصون ألا يتأثر المواطن السوري بالعقوبات ووضعنا إستثناءات للحاجيات الإنسانية، أما في لبنان فالوضع الإقتصادي شديد التأزم. يتمهل. يصمت. ثم يعود ليقول: هل تتذكرون مجزرة البيضاء؟ هناك تشارك النظام السوري مع طرف لبناني في هذه المجزرة وذهب ضحيتها والدي وأشقائي. لم أنسَ. لهؤلاء، لأهلي، لنفسي ولكل معتقل سنتابع قانون “قيصر” حتى جلاء كل الحقيقة.