كتبت مريم سيف الدين في صحيفة “نداء الوطن”:
على موقع “فيسبوك” كتبت عبارة من مسرحية “لولو” لفيروز، تقول فيها: “في ناس لا أعياد ولا حرية”. فأرسلت لي صديقة رسالة تخبرني فيها أنها اختنقت عندما قرأت كلمة حريّة، كونها مسجونة في منزل ذويها. فلفتت العبارة انتباهي إلى تراجع هامش الحرية التي تتمتع بها المرأة، وإلى حجم الضرر الذي يصيبها نتيجة الأزمة الاقتصادية المترافقة مع وباء كورونا.
إذا كانت المرأة وخلال السنوات الماضية قد تمكنت من انتزاع العديد من الحقوق والمكتسبات، لا منّة من رجل او مشرّع، بل نتيجةً لتغير المجتمع، وتفوقها العلمي ودخولها ميدان العمل، وتمتع الكثير من النساء باستقلالية مالية. أمّا اليوم، فأصبحت هذه الحقوق والمكتسبات مهدّدة بفعل الأزمتين، المالية والصحية، وبدأنا نشهد فعلاً هذا التراجع إذ ان العديد من النساء والفتيات بتن محتجزات في منازل أهاليهن، عاجزات عن الخروج منها. كما ينذر الوضع المعيشي الصعب، والمرجح للتفاقم، بارتفاع نسب تزويج القاصرات والاتجار بالنساء ودفعهن للعمالة بالجنس.في حين تحذّر ناشطات نسويّات من خطورة هذا الواقع ويدعون المشرّع لإقرار قوانين لحماية النساء، تروي صبيتان تجربتهما لـ”نداء الوطن”. مجرّد طرح الموضوع تشعر دانا بالإنزعاج الشديد. فالفتاة العشرينية عملت الصّيف الماضي وجمعت مبلغاً من المال لتتمكن من دفع إيجار السكن في بيروت وإكمال دراستها الجامعية، على أن تبحث في بيروت عن عمل للاستقلال عن أهلها ونيل حريّتها. لم تتمكن دانا سوى من تأمين إيجار 5 أشهر. وبفعل الأوضاع الإقتصادية التي أخذت بالتدهور، فشل مخططها بالعمل في بيروت، فاضطرت الطالبة لأن تأخذ مصروفها من والدها، “تعرّضت لابتزاز بحقّي في التعليم. فكلما حصل خلاف هددني والدي بحرماني من هذا الحق”.
عودة إضطرارية إلى القرية
وزاد الوباء الذي استجدّ وإجراءات التعبئة العامة في وضع دانا سوءاً، “لم يعد بإمكاني البقاء في بيروت تحت أي حجة، فلا جامعة ولا عمل”. عادت الطالبة إلى منزل والديها في القرية. “في المنزل تسمعين الكلام الذي يقوله ريفيون: أخطأنا وجعلناك تبلغين هذا الحد (من التحرر). وفي الشهر الثاني بدأ الأهل يمارسون عليّ سلطة شبيهة بسلطة الدولة التي تمارسها على الشعب. فتبدأ بممارسة كل ما لم يكن من الممكن ممارسته في الايام العادية، وتحاول تقييد الحرية. فبذريعة كورونا مُنعتُ من الخروج من المنزل ومن استقبال أحد. وعند كل خلاف مع أهلي يقولون لي إنهما غير مضطرين لصرف المزيد من المال عليّ”. تقارن دانا حياتها ما قبل “كورونا” بحياتها ما بعدها،”في الحالين عانيت من الترهيب، الفرق أنه قبل الوباء كان لدي ذريعة لأبتعد عن المنزل وأمارس حريتي بعيداً من أنظارهم، أما بعد كورونا فمصيري مجهول. فكل الممارسات العنفية التي كانت تمارس عليّ قبل الجامعة عادت لتمارس علي”. وبسبب سوء الأوضاع الإقتصادية وتراجع فرص العمل، ستضطر دانا للتخلي عن متابعة دراستها الجامعية والبقاء في القرية.
لسان دانا يعبّر عن حال آلاف الطالبات الجامعيات، ومثلهن تعاني النّساء العاملات. تروي ريم لـ”نداء الوطن” أنها اضطرت بعد التوقف عن العمل الى التخلي عن حياتها المستقلة والعودة إلى كنف العائلة والسلطة الأبوية، “فالأهل حتى وهم يحاولون إظهار انفتاحهم تتغير معاملتهم لدى عودة الإبنة للعيش معهم، فعندما تفقد الفتاة استقلاليتها المادية يصبح الخروج من المنزل أمراً صعباً، وعليّ التفكير مئة مرة قبل الخروج، فالمال حرية”.
العمل أو الهجرة
تأسف الفتاة العشرينية لاضطرارها إلى تغيير نمط حياتها بأكمله وخسارة حريتها، “فحتى الإقامة في منزل أهلي كانت لتكون أكثر راحةً لو أني لا أزال أتمتع بالاستقلالية المالية”. وتحاول ريم اليوم البحث عن عمل جديد، “فالخلاص بالعمل او بالهجرة”. تتحدث حنين عن ازدياد العنف اللفظي والمعنوي الذي تتعرض له، كما تقييد الحرية، “وهو عنف اسوأ من العنف الجسدي، لا أتخيل أن أحداً بمنأى عن كل صنوف العنف في ظل الازمة. فالنساء يخسرن استقلاليتهن المالية، ما يعني أن دورهن سيتراجع”.
في هذا الإطار، تلفت المديرة الإقليمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لبرنامج “النساء في الأخبار” والناشطة النسوية ميرا عبدالله، أنه حتى النساء المستقلات مثلها، واللواتي ما زلن يعملن، وبعد جائحة كورونا والحجر المنزلي شعرن بالتضييق، وبتن يسألن: “أين تذهبين”. “اليوم طالبات الجامعات لم يعد لديهن ذريعة، والنساء اللواتي خسرن أعمالهن ما عاد بإمكانهن الحفاظ على استقلاليتهن، يُعنّفن، تُحتجز حريتهن. والبعض منهنّ عدن إلى بيئة لا تتقبلهنّ ما يضعهن في حال نفسية صعبة، والأصعب أننا لا نعلم متى ستحل هذه المشكلات”. تؤكد عبدالله أن الأزمة الإقتصادية ستؤدي إلى تراجع حقوق النساء ومكتسباتهن على المدى البعيد، “فالنساء هن اكثر من تطالهنّ الأزمات. ولا أعرف ماذا سنخسر، فكلما طالت المرحلة ستزداد الخسائر”. وفي ظل غياب دراسات تظهر حال المرأة في لبنان ومدى تأثّرها بالأزمتين، تشير عبدالله إلى أن الأرقام الصادرة عن قوى الأمن الداخلي والتي تكشف ارتفاع حالات العنف الأسري، تظهر كم أن النساء منتهكات. وإن كانت الأرقام لا تعبر إلا عن جزء يسير من حالات العنف، إلا أنها تعبر أيضاً عن جوانب أخرى لا نملك أرقاماً عنها. “فإن كان حق النساء الجسدي منتهكاً فكيف هي الحال مع حقهن بالتنقل؟”.
الأكيد إذاً أن واقع المرأة مرجّح للتدهور أكثر فأكثر مع توقع اشتداد الأزمة الإقتصادية، إذ تشهد الأزمات الاقتصادية استغلالاً لجسد المرأة التي تصبح عرضة للإتجار. فيزداد استغلال النساء في العمالة بالجنس. كذلك تعود ظاهرة تزويج القاصرات، وهو ما ينذر به عجز الكثير من الأسر عن تأمين أبسط متطلبات العيش، وتكاليف تعليم بناتهنّ في المدارس الرسمية حتى. ووفق عبدالله، فإن تزويج القاصرات يرتبط بالمدخول المادي للعائلة التي تحتاج لمساعدة مالية. “لن نستطيع حماية القاصرات من التزويج المبكر خاصة إن تركن المدارس. وللأسف في بعض البيئات ينظر إلى تزويج الفتيات كنوع من المدخول المادي، أو للتخفيف من العبء المالي للعائلة. كذلك خلال الأزمات الإقتصادية نرى استغلال النساء للإتجار بالبشر والعمالة بالجنس”. كذلك تعبر رئيسة التجمع النسائي الديموقراطي، ليلى مروة، في اتصال مع “نداء الوطن” عن تخوّفها من عودة ظاهرة التزويج المبكر، “هذه الظاهرة ارتفعت مع النزوح السوري، وتأثر بها لبنان فارتفعت نسبة تزويج القاصرات فيه. وفي ظل كورونا والفقر ستنتشر هذه الظاهرة مجدداً، فهو زواج للضرورة”.
وكان التجمّع النّسائي قد سعى، بكل الأساليب التي أتيحت له، للضغط على النواب لإصدار قانون يمنع تزويج القاصرات، من دون جدوى. وبالتأكيد فإن المشرّع الذي تغاضى عن دوره في حماية النساء في فترة الاستقرار، حرصاً على المنظومة التي يلعب رجال الدين دوراً في بقائها، لن يكترث في ظل الأزمة لحماية اللبنانيات من المخاطر المحدقة بهنّ. ما يعني أنّ الطفلات والفتيات سيتركن لمواجهة مصائرهنّ وتنفيذ رغبات “القوّامين عليهنّ” من دون أية حماية. في حين تعمل الجمعيات، ومن ضمنها التجمّع، على مبادرات صغيرة لدعم وتمكين النساء. وتشير مروة، عبر “نداء الوطن”، إلى ضرورة التنسيق مع وزارات الشؤون الإجتماعية والصحة والتربية والزراعة، من أجل إطلاق مشاريع تنموية لدعم النساء على مستوى لبنان. “فجزء من حماية النساء هو التمكين الإقتصادي خصوصاً في شق المونة والتغذية”. وترى مروة أنّ أكثر المتأثّرات بالأزمة هنّ النساء المعيلات لأسرهنّ، أو من لا معيل لهنّ، “هؤلاء بتن يبحثن عن أيّ عمل يقمن به”. وإذ يفرض الوضع على المرأة المواجهة لمحاولة الحدّ من خسائرها وللدفاع عن حقوقها وكيانها، ترى عبدالله أنّ المواجهة الفردية يجب ألّا تحصل إلا في حال كانت الحماية مؤمنة. “فلا يمكن دفع الفتيات للمواجهة من دون حماية، ولا يمكن لكلّ امرأة أن تواجه الزوج أو الأخ، خصوصاً وأننا في مجتمع غير داعمٍ للمرأة. فحتى وإن عنّفت وضُربت، سيطلب منها العودة إلى المنزل”.
خسارة الحرية خسارة عزيز
تشبّه المعالجة النفسية، ماري أدال سالم، في حديث إلى “نداء الوطن” خسارة الحرية بموت شخص عزيز. “فعند خسارة حريته يتبع الإنسان مساراً كمسار الحداد، فينتقل من حالة الإنكار إلى الغضب ومن ثم المشاورات، ومن بعدها الكآبة وأخيراً التقبّل”. لكنّ سالم تشير إلى وجود ثلاثة أنواع مختلفة من ردود الفعل التي قد تقوم النساء بها جراء التغيير في نمط حياتهن واحتجاز حريتهن: سلبية، محايدة وإيجابية. وتتحدّث عن سيدات طوّرن آليات مساعدة لم يمتلكنها من قبل، فنجحن في إدارة الغضب والتركيز على أمور هامة وطوّرن آليات للتأقلم مع التغيير الذي طاولهنّ. وعلى الرغم من الإيجابية والتشجيع الذي تحاول تعميمه، تؤكد سالم أن الحالة النفسية للأفراد تؤثر على اتخاذ القرارات المصيرية، وترجّح ارتفاع نسبة تزويج القاصرات في الوضع الحالي. وتلفت المعالجة إلى أن أكثر ما برز خلال “التعبئة العامة” هو الاستغلال الجنسي للنساء عبر الإنترنت.
وتدعو سالم الفتيات للاستفادة من الخدمات المتاحة “أونلاين”، والاتصال بالخط الداخلي المخصص ضمن الخطة الوطنية لتقديم الدعم النفسي للأشخاص على الرقم 1564، والاستفادة من خدمات منظمات المجتمع المدني.