Site icon IMLebanon

كيف طوى شعب لبنان صفحة “كورونا”؟

 كتبت زيزي إسطفان في صحيفة “نداء الوطن”:

بكبسة زر انتهى الذعر من “الكورونا” وكاد يصبح ذكرى. في أذهانهم طوى اللبنانيون صفحة الفيروس وإن لم تكن قد طويت بعد على أرض الواقع، وفتحوا صفحة جديدة، أو على الأصح عادوا الى دفاترهم القديمة يقلّبون فيها علّهم يجدون شيئاً جديداً. عاد اللبنانيون اليوم ليمارسوا حبهم للحياة بكل الأشكال والتلونات ويتحدّوا بوجههم العاري كل فيروسات الأرض ومصائبها. مجانين أضحوا؟ مستهترين؟ أم مواطنين مقهورين لم يعد لديهم ما يخسرونه؟

اليوم عاد اللبناني “العيّيش” الى جوّه وعاداته وعادت رائحة المشاوي لتملأ الأحياء والقرى، وإن طغت رائحة جوانح الدجاج على رائحة لحم الغنم المدهن ولكن مع كأس العرق كلو بيمشي، فالمهم الجَمعة ولقاء الأحبة بعد الغيبة. عادت الشواطئ تعجّ بروادها يستمتعون بشمس لا تزال مجانية ورجع المتظاهرون الى ساحاتهم وإن بعناوين متضاربة. فترة التعبئة العامة او الفترة الانتقالية التي فرضتها الدولة (وكل دول العالم) لم يقبضها اللبناني بجدية، فهو يريد ان يحرق المراحل وأن يترفع بضربة واحدة من الذعر الى الفلتان. وبتناقض غريب بات متمرساً به، خف ذعره من “الكورونا” مع ازدياد أعداد المصابين به من المقيمين والوافدين، بعد أن كان في السابق يعيش ذعراً يفوق بحدته حدة المرض نفسه وأعداد المصابين به.

شعب مفصوم

لكن الرجعة كشفت انقساماً جديداً بين اللبنانيين وأكدت أن المجتمع اللبناني مفصوم ومنقسم على نفسه، لا بين 8 و 14 آذار اللتين باتت تجوز عليهما الرحمة، ولا بين جماعة الثورة والـ”موتسيك” الذين يتأرجحون دورياً بين القسمة والجمع والضرب، بل بين من لا يزال خائفاً من “الكورونا” متوجساً من تداعياتها وحذراً في تنقلاته وتصرفاته وبين من طوى الصفحة هازئاً بالمخاطر مواجهاً احتمالات العدوى بلامبالاة تلامس الاستهتار.

في مقابل هذا الانقسام العمودي الحاد، كثر ما زالوا يتأرجحون بين الحذر والانفلات يعيشون حالة انفصام ذاتي تام يضعون رجلاً في الفلاحة ورجلاً في البور. يسمعون التحذيرات على الشاشات ويودون التقيد بها لكن صوت الحياة يطغى عندهم على اصوات التحذير. يذهب أحدهم الى السوبرماركت صباحاً فيضع الكمامة والقفازات ويحمل قنينة المعقم في جيبه، ثم يسهر في الجميزة ليلاً “فيدقّ” كتفه بكتف الجالس خلفه فيستدير ليعتذر منه، ويضربان كأسيهما ضاربين بعرض الحائط بـ”السوشيل ديستانسنغ”. يخلع أحدهم الحذاء أمام باب البيت حتى لا يجلب معه عدوى الشارع وتلوثه ثم ينزل الى التظاهر في ساحات بيروت وسط المئات، معانقاً الرفاق شوقاً وتضامناً ومتلقياً رذاذ الهتافات ملء وجهه.

خلفيات نفسية تبرّر أسباب التفلّت

تصرفات غير طبيعية في بلد نسي ما هو الطبيعي. صحيح أن الدولة تتراخى في فرض الإجراءات ولا تراقب عن كثب التزام المواطنين بها، ولكن هل يبرر تراخي الدولة تفلّت المواطنين؟ هل من تفسير منطقي لتصرفاتهم وتجاهلهم أدنى وسائل الحماية؟ نسأل المعالجة النفسانية جنيفر أبو سمح المتخصصة في العلاج السلوكي المعرفي عن خفايا هذه التصرفات والدوافع الكامنة وراءها فتقول: إن حالة من الإبهام ترافق وضع “الكورونا” ككل وتتجلى في نقاط عدة: أولها الغموض المحيط بالفيروس ونشأته وكثرة النظريات المتضاربة حوله. وثانيها عدم وجود خبرة سابقة لدى الناس في التعاطي مع موقف مماثل، فالحجر المنزلي وإجراءات الوقاية أمر جديد كلياً لم يسبق للناس ان اختبرته ولا تعرف كيف تتعامل معه، أما النقطة الثالثة فهي عدم وضوح المستقبل وكيف ستنتهي الجائحة وينتهي معها الحجر والتعبئة. هذا الإبهام يولد عند الناس قلقاً او انشغال بال تجاه المشاكل، فهم لا يعرفون بأية مرجعيات يضعون ثقتهم ولا يفهمون الحدود الحقيقية لإجراءات الوقاية والسلامة، حتى أنهم غير متأكدين إذا كان هذا الفيروس مشكلة حقيقية أم وهمية، ولا سيما ان “الكورونا” خطر غير مرئي وليس تهديداً ملموساً ظاهراً يمكن للناس ان تختبئ منه.

إذا كان هذا هو التفسير العلمي للامور، لماذا نرى تفاوتاً في ردات الفعل بين الناس فنجد اشخاصاً ملتزمين وخائفين وآخرين متفلتين غير مبالين بأية تحذيرات؟

هنا أيضاً نعود الى التفسيرات النفسية علّنا نجد فيها ما يوضح لنا الصورة. وإذا أردنا البدء بتفسير اسباب التفلت من الإجراءات وتجاوز الخوف يمكننا أن نعيدها، وفق ما تؤكد جنيفر أبو سمح، الى نظرة الشخص حيال مشكلة “الكورونا”. فالبعض يسعى الى التعميم معتبراً أن “الكورونا” فيروس كسواه وليس لا اسوأ ولا أسهل من غيره، مرتكزين بذلك على أوبئة سابقة عرفتها البشرية ولا سيما في العقود الأخيرة. بعضهم يسعى للتخفيف من هول المشكلة فيقولون أن كوفيد-19 مجرد رشح عادي او لا يصيب إلا الكبار في السن، وان 80% ممن يصيبهم لا تظهر عليهم اعراض تذكر. وهناك قسم آخر من الناس يتصرفون وفق تفكيرهم العاطفي ويأخذون القرارات بناء على أحاسيسهم، فطالما هم غير خائفين من الفيروس فهذا يعني أنه غير خطر ولا يمكن أن يتسبب بأذى، أما القسم الاخير ممن لا يلتزمون بالإجراءات فهم الأشخاص الذين يمارسون نوعاً من التنبؤات، أي أن الفيروس سوف ينتهي قريباً وكل شيء سيعود الى طبيعته ويؤكدون ذلك بثقة، إنما من دون الارتكاز على أية معلومات وثيقة. ويضاف إليهم الأشخاص الذين يتصرفون وفق قناعاتهم الخاصة ولا يريدون أن يفرض أحد عليهم رأيه، فالالتزام قرار شخصي يتبعونه او لا هو شأنهم و يتحملون نتائجه.

هذه لا شك النماذج النفسية للاشخاص غير الملتزمين بإجراءات الوقاية، ولكن لا بد من أن نضيف إليهم كل الذين تفرض عليهم ظروف عملهم مساعدة الآخرين ولو بالتعرض لبعض المخاطر. وكذلك أولئك الناس من المجبرين على المخاطرة لتحصيل لقمة عيشهم. هؤلاء لا يمكنهم الاستسلام لرفاهية البقاء في البيت أو اتباع إجراءات السلامة، فالجوع كافر والخوف على لقمة العيش أشد قساوة من الخوف من المرض. الرزق غالٍ فكيف إذا كان الإنسان مهدداً بخسارة رزقه وماله فهل يبقى لديه ما يخاف عليه؟

في مقابل الخلفيات النفسية المختلفة للمتفلّتين نرى اشخاصاً ما زالوا ملتزمين بكل الإجراءات التي فرضتها المراجع الحكومية والطبية عليهم، وإن تفاوتت نسبة الالتزام بين واحدهم والآخر. هؤلاء مثاليون برأي البعض ومبالغون برأي آخرين يجدون في تصرفاتهم “سرساباً” لا فائدة منه.

من هم هؤلاء الأشخاص الملتزمون وما الذي يدفعهم الى ذلك؟ هنا ايضاً يشرح علم النفس الأمر من منظاره، فالملتزمون بالإجراءات هم أناس يرتكزون على مرجعيات يثقون بها قد تكون طبية او حكومية او تعود الى اشخاص يصدقون دوماً كلامهم. والى جانبهم فئة تخاف في العادة من المخاطر وتتجنبها من حيث أتت وشعارها في الحياة “إبعد عن الشر وغنِ له”. أما الفئة الثالثة فهم الأشخاص الذين يلتزمون بالقوانين والقواعد في حياتهم وقراراتهم سواء كانوا مقتنعين بالأسباب ام لا. وتبقى الفئة الأخيرة التي عاشت تجربة “الكورونا” بشكل شخصي وذلك عبر تعرضها او تعرض قريب منها للإصابة، بحيث بات الخطر ملموساً وغير وهمي أو التي التزمت خوفاً على أهل وأحباء لها، معرضين لمضاعفات العدوى نتيجة مشاكلهم الصحية بحيث بات لالتزامها بالحجر والإجراءات هدف شخصي يسهل عليها القبول به.

هؤلاء التزامهم لا يزال ضمن الهامش المقبول والمنطقي للوقاية، ولكن ماذا عن “الموسوسين” المذعورين ذعراً غير مبرر من “الكورونا”، الذين لم يخرجوا من بيتهم بعد حتى بعد فتح كل القطاعات كما لو كانوا في أول أيام الأزمة؟ هؤلاء، تقول ابو سمح، اشخاص يخافون من الأمراض بشكل عام ويعانون الوسواس منها بالمطلق، وأتى تهديد “كورونا” ليصب على نار خوفهم زيتاً ويضاعف الشعور بالذعر عندهم. وقد لاحظ الخبراء النفسيون ان كل من يعاني من مشاكل نفسية قد ازدادت حدتها عنده مع انتشار الوباء وما رافقه من خوف.
الـ”سوشيل ميديا” ودورها الملتبس

الى هذه النماذج وأنماطها النفسية يضاف عامل خارجي هو عامل الـ”سوشيل ميديا” الذي بات يلعب دوراً محورياً في حياتنا وقراراتنا. فقد صارت الصور التي نراها على شاشاتنا الصغيرة هي التي ترسم لنا واقع العالم من حولنا. وصرنا حين نرى شخصيات معروفة أو أشخاصاً من معارفنا نكنّ لهم إعجاباً يعرضون صوراً لهم على الشواطئ وفي المطاعم والأماكن العامة وحتى في ساحات التظاهر، تتولّد في ذهننا شكوك وتساؤلات كثيرة: لماذا لم يصابوا بأي مكروه؟ لماذا هم وليس نحن؟ ألا نستحق أيضاً أن نستمتع بحياتنا مثلهم؟ وهذا ما يخلق عندنا دوافع للتشبه بهم عن وعي او غير وعي ويدفعنا مثلهم لعدم الالتزام كثيراً بالإجراءات المفروضة علينا. هل وجدتم بين هذه النماذج من يشبهكم؟ هل اتضحت لكم اسباب انقسام اللبنانيين بين ملتزم ومتفلت؟ وإذا خيّرتم مع من تنسجمون وتتضامنون أكثر؟ مع جماعة المتفلتين المنطلقين نحو الحياة؟ أو أولئك المنادين بالخبز والعيش الكريم؟ أم تحملون لواء الحذرين وتنتظرون معهم من خلف الكمامة ما ستؤول إليه أمور الفيروس؟

الإجابة صعبة بلا شك لأن الإبهام لا يزال سيد الموقف، لكن نصيحة من اختصاصية قد تعطينا قبساً من ضوء لنسلك الطريق الأنسب: لا بأس أن نخاف وأن نعترف بخوفنا فلا نتجاهله أو نموهه أو نهرب منه. فالخوف ليس إلا آلية تحذير من خطر يتربص بنا، حين نشعر به نبادر الى حماية أنفسنا وأخذ حذرنا. وحين نعترف به نتصالح مع أفكارنا ويصبح بإمكاننا التعامل مع الوضع الخارجي بالصورة التي تريحنا وتناسبنا. لذا من كان خائفاً فليتصرف وفق ذلك ويأخذ ما يتوجب عليه من احتياطات، لا سيما وأن خوفه سوف يتضاءل مع الوقت مع تقبّله له، ومن لا يشعر بالخوف يمكنه أن يتصرف كما يشاء شرط الا يكون هروباً الى الامام.