كتب إيلي الفرزلي في “الاخبار”:
أزمة المازوت بدأت تطال قطاعات حيوية. حتى في السوق السوداء يصعب إيجاد المازوت بأقل من 18 ألف ليرة، في ظل إجراءات خجولة لضبط المخالفات. مخزون منشآت النفط شارف على النفاد. المشكلة الأساس أن مصرف لبنان يتأخر في فتح الاعتمادات، ولا حلول في الأفق طالما أنه يُصرّ على الاستنساب. مع ذلك، فإن نهاية الشهر قد تحمل بعض الحلحلة، بوصول باخرتين جديدتين. إلى ذلك الحين، فإن أسبوعاً صعباً ينتظر اللبنانيين.
لم تنته أزمة المازوت بعد، ويبدو أنها لن تنتهي قريباً. زحمة الصهاريج على أبواب منشآت النفط في طرابلس، التي أقفلت أبوابها أمس، تؤكد أن الأمور متجهة نحو الأسوأ. مخزون المنشآت، التي تؤمن 40 في المئة من حاجة السوق، يكاد ينفد. ولذلك عمدت إلى تقنين التسليم، وفتحت أبوابها أمس في الزهراني فقط. الاستهلاك اليومي يصل إلى 9 ملايين ليتر من المازوت، فيما كل المخزون في فرعي المنشآت لا يتخطى 8 ملايين ليتر. كل ذلك يؤدي إلى تناقص شديد في الكميات المبيعة. ونظراً إلى شحّ هذه المادة الحيوية، بدأ أصحاب مولدات يعلنون عن إطفائها نهاراً، كما حصل في بلدة فنيدق العكارية.
وقد حذّر رئيس جمعية المزارعين انطوان الحويك، في بيان، من انعكاسات فقدان المازوت على الانتاج الزراعي وعلى قدرة المزارعين على ري مزروعاتهم. ثمة دائماً من يسعى إلى مراكمة الأرباح على حساب الناس. الأمن العام ختم محطة بالشمع الأحمر في حاصبيا، بعدما تبيّن أن صاحبها يرفض بيع المازوت بالرغم من توفر 13 ألف ليتر في خزّاناته. التخزين تحوّل في الفترة الماضية إلى حركة شبه منظمة، لا تشمل المحطات والشركات والموزعين فحسب، بل أشخاصاً لم يسبق لهم أن تاجروا بالمازوت. الطفرة في تصنيع الخزانات تشهد على ذلك. تلك طريقة لشفط الدعم سبق أن شهدها لبنان منذ عشر سنوات حين أقرّت الحكومة الدعم للمازوت الأحمر. حالياً، كل صفيحة مازوت تُستورد من خلال تأمين مصرف لبنان للاعتمادات بالسعر الرسمي للدولار، تكون مدعومة بنحو ثلثي ثمنها الفعلي (على أساس سعر صرف 4500 ليرة). تلك بالنسبة إلى كثيرين طريقة لتحقيق أرباح صافية. شراء المازوت حالياً مرادف لشراء الدولار على سعر 1500 ليرة. والحسبة هنا لا تتعلق بما يمكن تحقيقه من أرباح «عادية» عند إعادة البيع في السوق السوداء. التخزين يعني تحويل الليرات – الموجودة في خزائن التجار والطارئين على هذه التجارة – إلى دولارات بسعر السوق، عبر إمكان البيع بأسعار مضاعفة عندما يزداد الاستهلاك وعندما يخف الدعم أو يُلغى. التركيز على المازوت سببه سهولة تخزينه بالمقارنة مع البنزين السريع التبخّر. أضف أنه لا يخضع لأي نوع من الضرائب والرسوم، ما يعني أيضاً إمكانية تحقيق أرباح كبيرة في حال طبّقت اقتراحات بإنهاء الإعفاء.
بالنتيجة، فإن السعر الرسمي للصفيحة هو 11 ألف ليرة، لكن قلة من يتمكنون من شرائها بهذا السعر. سعرها في السوق ارتفع أمس إلى 18 ألف ليرة. كل من يُسأل من المعنيين في الشركات وفي الوزارة يحيل الإجابة إلى مصرف لبنان. الاعتمادات تتأخر دائماً. صار المصرف يعتمد المداورة بين الشركات لفتح الاعتمادات لها. وهذا يشمل كل أنواع المحروقات.
يُحكى أن التأخير مردّه إلى سعي المصرف إلى عدم المس بالاحتياطي، والاعتماد على ما يدخله من أموال طازجة، أبرزها عن طريق التحويلات النقدية التي تتم عبر شركات تحويل الأموال. هذه الأموال تُسلّم لأصحابها بالليرة اللبنانية على سعر 3800 ليرة للدولار، فيما يستحوذ مصرف لبنان على الدولارات. المبلغ يقدّر بنحو 5 ملايين دولار يومياً، ما يعني أنه يمكن أن يؤمّن نسبة كبيرة من الاستيراد، وإن كانت غير كافية. في النتيجة، إن التأخير في فتح الاعتمادات مرتبط بالسعي إلى تجميع الدولارات. تلك الآلية هي التي تسهم في عرقلة عمل الشركات، وتلك الآلية هي التي تؤدي إلى إحجام الشركات عن المشاركة في المناقصات التي تطلقها منشآت النفط. فدفتر الشروط ينص على تحميل الشركات مسؤولية أي تأخير في وصول الشحنات في المواعيد المحددة لها. لكن مقابل الشرط الجزائي الخاص بالشركات، فإن الدولة في حال تأخرّها في فتح الاعتمادات لا تتحمّل أي مسؤولية تعاقدية.
ضمان الدولة ومصرف لبنان لفتح الاعتمادات في الوقت المناسب يمكن أن ينهي الأزمة. عندها بدلاً من أن تفشل المناقصات في استقطاب الشركات، قد تتهافت الأخيرة على المشاركة… ببساطة لأن الربح مضمون.
إلى ذلك الحين، فإن الأزمة لن تنتهي. والمازوت تحديداً سيبقى مفقوداً في الأسواق. التهريب واحد من الأسباب، لكن التخزين يفاقم الأزمة، خاصة في ظل غياب أي تحرك فعلي من السلطات لكبح هذه الظاهرة. لا أحد يملك الإجابة عن حجم المبيع لمعرفة حقيقة وضع السوق. الجهات الثلاث القادرة على تحديد مجموع الكميات المهرّبة والمخزّنة، أي مصرف لبنان ووزارة الطاقة والجمارك، تتجنّب ذلك. في السنوات الماضية، كان معدّل استهلاك المازوت يعادل 150 ألف طن شهرياً. تلك الكمية يفترض أن تكون قد انخفضت في هذه الفترة، لكن في غياب الشفافية تبقى كل الاحتمالات ممكنة.
هل يمكن أن يكون قرار مجلس الوزراء بالسماح بالشراء عبر آلية spot cargo (الشراء من البحر) الحل المنتظر؟ بحسب مصادر مطلعة، فإن تلك الآلية لكي تنجح بحاجة إلى توفر الدولارات فوراً. فالشراء من البحر يتم في الغالب من بواخر لم تفرّغ في وجهتها المقررة سلفاً، إما لعدم فتح الاعتمادات أو بسبب عدم مطابقة المواصفات، أو بسبب إلغاء قرار الشراء. عندها تعرض الشحنة للبيع على مواقع إلكترونية متخصّصة. يمكن لأي جهة أن تحجزها، تمهيداً لشرائها، لمدة قد لا تتخطى خمس ساعات. إذا لم يتم الدفع يعاد تحرير الشحنة وعرضها للبيع. هذا يعني أن الأموال يفترض أن تكون جاهزة، إذا ما قرر لبنان تنفيذ عملية الشراء. وبشكل أدق، يفترض أن يفتح الاعتماد قبل الشراء، فهل هذا ممكن؟ عامل في القطاع يشير إلى أن الطلبات لفتح الاعتمادات صارت تنتظر شهراً أحياناً، ولذلك فإن تخيّل سيناريو فتح الاعتماد فوراً سيكون صعب المنال إلا في حال التزم مصرف لبنان مع وزارة الطاقة بتأمين الأموال لها. وهو ما يفترض أن يتبلور في الأيام المقبلة، حيث يعقد اجتماع بين المنشآت والمصرف بما يضمن فتح اعتماد معزز، مقابل حجز مالي من قبل المنشآت. كذلك، يتوقع أن تصل باخرتان جديدتان نهاية الشهر، تنفيذاً للعقد الموقع بين المنشآت وشركة Liquigaz. تلك الخطوات قد تسهم في تخفيف تبعات الأزمة، إلا إذا كانت النتيجة زيادة التخزين.