لا يرقى الإداء الحكومي في التعاطي مع الأزمة النقدية والمالية التي يجتازها لبنان الى مستوى الحد الادنى من العمل الاحترافي والاختصاصي، بل يبدو عمل هواة مبتدئين ليس الا، لا علاقة له بعلوم السياسة والمال والاقتصاد ولا مر بالقرب منها حتى.
مصادر اقتصادية ومصرفية بارزة لا تخفي امتعاضها من هذا الاداء، لا بل تعبّر عن بالغ أسفها لمسار الفشل المتمادي الذي تتسبب به القرارات الحكومية العشوائية التي تعكس حجم قصر النظر وغياب الرؤى العلاجية الحقيقية لدى الحكومة، مما يؤدي الى ازدياد انهيار العملة اللبنانية.
وتلفت المصادر عبر “المركزية” إلى أن الأوان آن لتفهم الحكومة بأن الوقت ليس وقت ترف تعلّم السياسة والاقتصاد ولا وقت تلميع صورة أعضائها من خلال رمي الكرة في ملعب الآخرين، بل وقت علاجات تتطلب قرارات سياسية واقتصادية ومالية جريئة تحاكي حجم الأزمة والحلول المطلوبة. فانهيار العملة اللبنانية لن يتوقف بالحملات على مصرف لبنان والمصارف، ولا بمحاولة تغييب حقيقة الأسباب التي أدت الى ما وصلت اليه الأمور، ولا بقرارات ارتجالية ومتهوّرة ومتناقضة بين اليوم الآخر. فقد أثبتت الحكومة أنها لا تملك لا الرؤية ولا المشروع ولا التصور ولا الجرأة ولا الكفاءة ولا الشجاعة المطلوبة لمن يتولى المسؤوليات في مثل هذه الظروف، بل أن كل ما يمكن أن تقدم عليه هو تحميل الآخرين مسؤوليات هي في صلب صلاحياتها واختصاصها. والأنكى أنها لا تقبل لا مشورة ولا نصيحة ولا إرشاداً، بل تصرّ على المضي قدماً في المكابرة والهروب الى الامام .
وتشير الى أن مشكلة الحكومة لم تعد محصورة بالملفات الاقتصادية والمالية بل تعدتها الى كل الملفات من دون استثناء. وتشرح وجهة نظرها بالقول: جاء في كلمة رئيس الحكومة حسان دياب في “لقاء بعبدا” الذي دعا اليه رئيس الجمهورية ان الناس يريدون افعالا لا أقوالا… وأضافت: يريدون من الجيش والقوى الأمنية أن يبسطوا الأمن، ويريدون من القضاء أن يستعيد استقلاليته، ويريدون من مصرف لبنان أن يوقف انهيار سعر صرف الليرة… والغريب أن دياب يعدد ما يريده الناس وكأنه غير معني هو وحكومته بالقرارات السياسية التي تسمح للجيش بفرض الأمن واستعادة صلاحياته بدون شريك، والتي تسمح للقضاء بأن يستعيد استقلاليته، وللمصرف المركزي بأن يعالج المشاكل النقدية.
وتتوقف المصادر في هذا المجال على سبيل المثال لا الحصر، أمام إصرار الحكومة الأسبوع الماضي على قرارها بالطلب من مصرف لبنان ضخ الدولار من موجوداته النقدية للصرافين، خلافاً لرأي مصرف لبنان الذي شدد منذ اليوم الأول ولا يزال على أن المشكلة هي في إيجاد السبل الكفيلة بإدخال الدولار والعملات الأجنبية الى مصرف لبنان خصوصا والى لبنان عموما، وليست في آليات خروج العملات الأجنبية من مصرف لبنان والأسواق اللبنانية.
لكن رغم ذلك، فقد أصرت الحكومة في قرار يناقض قراراتها ومواقفها السابقة بضرورة عدم التدخل في الأسواق، وفرضت قرارها بتسليم الصرافين كميات من الدولار من موجودات مصرف لبنان بحجة ضبط الأسواق قافزة فوق اسهاب مصرف لبنان في شرح عدم جدوى مثل هذه التدابير، وخطورة التخبط في القرارات المتناقضة بين يوم وآخر، وضرورة العمل على أن يكون أي حل عبر المصارف لتعزيز دورها لما لذلك من مساهمة في الحفاظ على الحد الأدنى من دورة الحياة الاقتصادية والتجارية. لكن الحكومة أصرت على كيديتها تجاه مصرف لبنان والقطاع المصرفي، متمسكة بوجوب تنفيذ قرارها وشكلت لجنة سمت في عضويتها نقابة الصرافين في سابقة لم يشهد لها لبنان مثيلاً في تاريخ رسم السياسات المالية والنقدية والاقتصادية، ودعي ممثلو الصرافين لحضور اجتماعات لمجلس الوزراء. وكالعادة وبعدما تبيّن للحكومة فشل خياراتها، وصحة ما حذّر منه مصرف لبنان لناحية عدم جدوى التدابير الحكومية التي تأتي على حساب دور القطاع المصرفي، لجأت كالعادة الى تزوير الواقع وتشويه الحقيقة بتصوير قرارها الخاطىء بضخ الدولار للصرافين وكأنه خيار مصرف لبنان الذي شدد منذ اللحظة الأولى على مخاطر عدم احترام قواعد الاقتصاد والمال من خلال عدم احترام الحكومة لدور القطاع المصرفي ومحاولة الالتفاف عليه وجعله يدفع ثمن أخطاء السياسات الحكومية.
ويشدد الاقتصاديون والمصرفيون بالاستناد الى هذه القراءة على أن المعالجات المطلوبة لا يمكن أن تكون تقنية متهورة وانتقامية على غرار ما تقوم به هذه الحكومة منذ وصولها الى سدّة الحكم، بل هي بحاجة الى قرارات سياسية استراتيجية تتخذها الحكومة لتعيد للدولة هيبتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية، ولتعيد ربط الاقتصاد اللبناني بالاقتصاد العالمي، لا للانغلاق وعزل لبنان عن محيطه والعالم.