كتب ألان سركيس في “نداء الوطن”:
وجّه رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع رصاصة موجعة إلى طاولة الحوار التي دعا إليها رئيس الجمهورية ميشال عون وأفرغها من مضمونها بعد إعلان معظم الكتل المعارضة وحتى بعض الحلفاء عدم مشاركتهم فيها.
فنّد جعجع في مؤتمره الصحافي الذي عقده أمس الأسباب التي تدفعه إلى عدم المشاركة، معتبراً اللقاء لزوم ما لا يلزم، معلناً إنتهاء الهدنة مع الحكومة داعياً إياها إلى الرحيل بعد انتهاء فترة السماح.
وتدخل العلاقة بين معراب وبعبدا مرحلة جديدة من التأزم، فجعجع الذي كان حريصاً على تحييد صراعه مع رئيس “التيار الوطني الحرّ” جبران باسيل عن عون بات على تماس مباشر مع القصر الجمهوري ما يطرح علامات استفهام عن طريقة التعاطي الجديدة بين معراب والرئاسة.
منذ الإنتفاضة الشهيرة التي قادها الثلاثي جعجع – حبيقة – بقرادوني في 12 آذار 1985 ضدّ رئاسة فؤاد أبو ناضر للهيئة التنفيذية لـ”القوات اللبنانية”، دخل الحكيم المعترك السياسي من بابه العريض، فكانت الإنتفاضة جرس إنذار لعهد الرئيس أمين الجميل لأن الأخير أراد وضع يده على “القوات”.
لم تمض أشهر عدّة حتّى قاد جعجع في 15 كانون الثاني 1986 إنتفاضته الشهيرة بمباركة الرئيس كميل شمعون و”الجبهة اللبنانية” وبكركي وبالتحالف مع الجميل للإطاحة بـ”الإتفاق الثلاثي” الذي وقّع في دمشق ومعه طار حبيقة من رئاسة “القوات” واستلم جعجع قيادة المناطق الشرقية المحررة.
وفي خريف 1988 وسط ضبابية في المواقف الدولية بسبب قرب انتهاء عهد الجميل وعدم الإتفاق على رئيس جمهورية، كان لجعجع الكلمة الفصل بالتحالف مع قائد الجيش آنذاك ميشال عون فأجهضا محاولة وصول الرئيس سليمان فرنجية مجدداً إلى بعبدا، من ثمّ لم يرضخا للطرح الأميركي “مخايل الضاهر أو الفوضى”، فكان أن عيّن الجميل في آخر ساعات عهده عون لرئاسة الحكومة الإنتقالية.
ومع إنطلاقة عهد الرئيس الياس الهراوي، لم يساير جعجع الرئيس الأول بعد “الطائف” فوقع الصدام السياسي الكبير ورفع جعجع الغطاء المسيحي عن عهد الهراوي فما كان أمام نظام الوصاية الا تفجير سيدة النجاة ذريعة لإدخاله إلى المعتقل وحل “القوات” وملاحقة القواتيين.
خرج جعجع من المعتقل في 26 تموز 2005، وما لبث أن كان في الصفوف الأمامية في معركة إسقاط الرئيس الممدد له إميل لحود، لكن، وعلى رغم عدم قدرة “14 آذار” على إطاحة لحود، فإن عهده تحوّل إلى جثة سياسية.
كانت علاقة جعجع مع الرئيس ميشال سليمان الذي انتخب في 25 أيار 2008 بعد إتفاق “الدوحة” جيدة نسبياً لكنه قاطع الحوار الذي دعا إليه لاحقاً بسبب عدم استبشاره خيراً به.
إنتهت ولاية سليمان ودخلت البلاد الفراغ الرئاسي، وبين المرّ والأمرّ في ذلك الوقت، وبعد مبادرة الرئيس سعد الحريري ترشيح رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية في خريف 2015، لم يعد أمام جعجع وعون خيار سوى المصالحة وتبني ترشيح عون، فكان جعجع المساهم الأكبر في وصول عون إلى سدة الرئاسة.
يوضع جعجع دائماً أمام الخيارات الصعبة، وهو وإن كان يختار الوقت المناسب ليسدّد الضربة لمن كانوا في صفّ الحلفاء وأساؤوا إليه إلا أن قراراته تقلب المعادلات، وكان آخرها عدم تسميته الحريري لرئاسة الحكومة مجدداً بعد الثورة الشعبية وعدم الحماسة الأميركية – السعودية لعودة الحريري إلى السراي، فكان قراره أحد اسباب خروج الحريري من رئاسة الحكومة.
اليوم كان أمام جعجع مهمة صعبة أيضاً، فالرئيس الذي أوصله إلى بعبدا إنقلب عليه، وقاد صهره باسيل حرب إلغاء على “القوات”، لذلك انتظر جعجع الوقت المناسب وسدّد ضربته.
في الحوار الأخير الذي عقد في 6 أيار في بعبدا كسر جعجع الطوق المفروض على العهد وشارك وقال ما كان يرغب أن يقوله، أما اليوم فقد اشتدّ الخناق على عون أكثر نتيجة مقاطعة قيادات الطائفة السنية للحوار وموقف فرنجية و”الكتائب” في عدم المشاركة، فكان جعجع أمام خيارين لا ثالث لهما إما المشاركة وإنقاذ العهد أو المقاطعة.
وأمام كل هذه العوامل الداخلية التي نسجها خصوم العهد وحلفاؤه يأتي الموقف الدولي وخصوصاً الأميركي الناقم على المحور الذي يمثله العهد، فواشنطن ترفع وتيرة تطويق المحور السوري – الإيراني، وتفرض عقوبات صارمة على طهران وتضرب النظام السوري بقانون “قيصر”، وبما أن اللحظة السياسية مؤاتية، كان الهدف القاتل الذي سجّله جعجع في مرمى عون منتقماً لنحو 3 سنوات ونصف السنة من الإستئثار والتفرّد وأخذ لبنان إلى محور غير محوره والمساهمة في تجويع الشعب. جعجع لم ينقذ عون هذه المرّة ويبدو أن عهده تحوّل إلى ما يشبه العهد الممدد للحود الذي عاش 3 سنوات في بعبدا وسط مقاطعة داخلية وخارجية.
معراب التي شهدت لقاءات مكثفة قبل اتخاذ جعجع القرار، كان معظم نوابها معارضين مشاركة جعجع في الحوار وتصوير عون أنه قادر على جمع اللبنانيين رغم الأخطاء التي يرتكبها من يدور في فلك العهد، ويرى هؤلاء النواب أن عوامل عدّة أوصلت العهد الى هذا الوضع أبرزها تصرفات باسيل الذي دخل في إشكالات مع الجميع وحاول شن حروب إلغاء بالجملة ومحاولة إثارة الفتن المتنقلة، كذلك تصرفات وزراء العهد وانغماس بعضهم في الفساد وعدم الرغبة في الإصلاح، وآخرها عرقلة التشكيلات القضائية. أما السبب الأكبر حسب نواب “القوات” فهو عدم الإستماع إلى مطالب الشعب المنتفض، وإلصاق لبنان بالمحور السوري – الإيراني ودفاع العهد المستميت عن “حزب الله” ما سبب الحصار على البلد وساهم في تردي الأوضاع.
لا تسرّ معراب بتحوّل عهد عون إلى عهد غير قادر على حلّ المشاكل، فعندما انتخب الجنرال رئيساً للجمهورية كانت الآمال معلّقة على إستعادة الدولة هيبتها ودورها وتأمين الحياد وحل المشاكل الإقتصادية وإنقاذ الوضع، لكن الممارسات أدّت إلى ما أدّت إليه، لذلك فإن معراب تعتبر أن هدفها إنقاذ البلد لا الإنتقام من عون أو أي شخص آخر، فلو نجح العهد “لنجحنا كلنا”، لذلك المطلوب تغيير أسلوب الحكم وعدم ترك شخص ذي أطماع سلطوية يتحكّم بالبلد ويوصله إلى هذا الوضع ويغطي “حزب الله” الذي تهمه مصالح الخارج المتحالف معه أكثر من مصلحة الداخل.