.. في القصر الجمهوري اللبناني «حوارٌ باهِتٌ» ينْفخ في «خطر الفتنة على السلم الأهلي» ويُرْسي ملامح أول «دشمٍ» في خط التمتْرس بوجه «لعبة دولية فتنوية» و«أجندات خارجية مشبوهة»… وفي أروقة عواصم القرار الغربي – العربي معادلةٌ تُكَرِّسُ انتهاءَ صلاحية طلبات «الاسترحام» التي كانت تسمح لبيروت بـ»النجاة» من تَلقّي تشظياتِ المواجهة مع «حزب الله» تحت عنوان «لا حوْل»، وذلك على قاعدة اعتبار الابتعاد عنه، بوصفه ذراعاً إيرانية تسترهن لبنان، مدْخلاً لمدّ يد المساعدة لـ«بلاد الأرز» وانتشالها من أسوأ أزمة مالية – اقتصادية – اجتماعية تضربها في المئة عام الأخيرة.
وارتسم هذا المشهد المتقابِلِ بوضوحٍ نافرٍ على وقْع الاقتناع المتزايد بأن الائتلاف الحاكم بات كمَن يهرول في سباقٍ محموم مع سيلٍ جارف يطارده، محمَّلٍ بأثقال الانهيار المالي الكبير وبالمخاطر الأكبر المتأتية من انكشافه على المكاسَرة الأميركية – الإيرانية التي بات «قانون قيصر» منصتّها الأكثر شراسةً، وهو ما عبّرت عنه الوقائع الآتية:
* تَعَمُّد وزير الخاجية الأميركي مايك بومبيو «قولها كما هي» في ما خص «مفاتيح» دعم واشنطن و«العالم بأسره» لنهوض لبنان، مؤكداً أن بلاده «مستعدة لدعم الحكومة إذا نفذت إصلاحات حقيقية وعملت بطريقة لا تجعلها رهينة لحزب الله».
ولم يكد أن يجف حبر الكلام «غير الديبلوماسي» لرئيس الديبلوماسة الأميركية، حتى لاقاه موقف في الاتجاه نفسه لوزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش، الذي اعتبر أن لبنان يدفع ثمن تدهور العلاقات مع دول الخليج العربية، رابطاً تقديم المساعدة له بتراجُع نفوذ الحزب، وقد «شهدنا إملاءً للخطاب السياسي من جانب الحزب الذي يملك فعلياً جيشاً داخل الدولة».
ولفت إلى «ان الإمارات حذّرت بيروت مراراً من تدهور العلاقات مع الخليج وأنه إذا أحرقتَ جسورك فسيكون من الصعب عليك جداً استخدام الرصيد الهائل من حُسن النية والرصيد الهائل من الدعم المالي الذي يحتاج إليه لبنان»، وجازماً في مقاربته ما يشهده لبنان من «انهيار اقتصادي مقلق للغاية» بأن بلاده «لن تفكر في تقديم الدعم المالي إلا بالتنسيق مع الدول الأخرى، فإذا شهدنا بعض أصدقائنا والقوى الكبرى المهتمة بلبنان يعملون على خطة فسنفكر في الأمر. لكن حتى الآن ما نراه هنا حقاً التدهور لعلاقات لبنان العربية وعلاقاته الخليجية على مدار الأعوام العشر الماضية. ولبنان يدفع جزئياً ثمن ذلك الآن».
* اعتماد الائتلاف الحاكم ما يشبه «إدارةَ الظهر» لهذا المناخ الخارجي المتشدّد – الذي لاقتْه أجواء سعودية تربط أي دعٍم مالي للبنان بتحييد نفسه عن أزمات المنطقة – وهو ما تجلى في «اللقاء الوطني» الذي عُقد أمس في القصر الجمهوري برئاسة الرئيس ميشال عون وتحوّل «نصفَ حوارٍ» أو منبراً لـ«حوار أهل البيت الواحد» بفعل مقاطعة نحو نصف المدعوّين له (غالبية المعارضة وأحد الأطراف المشاركة في الحكومة)، وذلك من خلال اندفاعةٍ هجومية انطوتْ على محاولةٍ مزدوجة: أولاً للتهويل على قوى المعارضة التي غابت رافضةً محاولة جرّها لتغطية ما اعتبرتْه فشل السلطة في إدارة الأزمة وفي معاودة الانضواء تحت سقف الشرعيتين العربية والدولية والنأي بلبنان عن صراعات المنطقة.
وثانياً لترهيب الشارع المُنْهَكِ بالأزماتِ والذي بات يتقلّب على جمْر المآسي الاجتماعية التي صارت تستولد احتجاجاتٍ جوّالة، تجددت أمس مع تسجيل سعر صرف الدولار رقماً قياسياَ جديداً (ناهز 7000 ليرة للدولار الواحد) وتشي بانفجار كبير يُخشى أنه صار مسألة وقت في ظل تكاتُف الكوابيس المتوالدة وسط تحذيراتٍ ديبلوماسية كانت صدرت من تحوّل لبنان «غزة ثانية» على وقع اشتداد الخناق الاقتصادي والمعيشي حول أعناق اللبنانيين وأرزاقهم.
ولم يكن عابراً، كلام عون تحت عنوان ضرورة «حماية الاستقرار والسلم الأهلي» الذي أعطي للحوار، عن «الأخطار الأمنية التي قرعت أبواب الفتنة من باب المطالب الاجتماعية»، معلناً «هناك مَن يستغل غضب الناس، ومطالبهم المشروعة من أجل توليد العنف والفوضى، لتحقيق أجندات خارجية مشبوهة بالتقاطع مع مكاسب سياسية لأطراف في الداخل».
وتابع: «أقولها بالفم الملآن، ليس أي إنقاذ ممكناً إن ظلّ البعض مستسهلاً العبث بالأمن والشارع، والتناغم مع بعض الأطراف الخارجية الساعية لجعل لبنان ساحة لتصفية الحسابات، وتحقيق المكاسب، عبر تجويع الناس وخنْقهم اقتصادياً»، وداعياً إلى «الوحدة حول الخيارات المصيرية في ظل الغليان الإقليمي والمخاطر التي قد تنشأ عما يُعرف بقانون قيصر».
وفيما لم يقلّ دلالة توقُّع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، أن تستمر «المنظومة المالية بالتحريض ولو وقعْنا في الفتنة اللعينة فلا بأس طالما هي تتناسب مع اللعبة الدوليّة»، بلْور البيانُ الختامي للقاء هذا المناخ بدعوته «لوقف كل الحملات التحريضيّة التي من شأنها إثارة الفتنة وتهديد السلم الأهلي»، معتبراً «ان المعارضة العنفيّة لا تندرج في خانة المعارضة الديموقراطيّة»، ولافتاً إلى أن لبنان يمر بـ«أزمة أخطر من حرب» تستوجب «تجاوز الاعتبارات والرهانات السلطويّة»، وإن دعا لبحث توافقي «من دون عُقد أو مُحرّمات»، حول «مفاصل الخلافات الكبيرة التي تؤجّج انقساماتنا».
ولم تحجب هذه الخلاصات، أصداء الصوتَ «المختلف» الذي رفعه الرئيس السابق ميشال سليمان الذي نفّذ ما يشبه «الإنزال» السياسي الذي استحضر بقوةٍ سلاح «حزب الله» من بوابة «إعلان بعبدا» وأكلاف تَورُّطه في صراعات المحاور، متهماً الحزب بـ«نقض الاتفاق، ما حال دون تنفيذ تعهدات الدولة وتسبب بعزلتها القاتلة، وبفقدان ثقة الدول الصديقة وأهلنا في الانتشار والمستثمرين، وساهم في تراجع العملة الوطنية».
ولم يكن أخف وطأةً وضْع «الحزب التقدمي الاشتراكي» (يتزعّمه وليد جنبلاط الذي أوفد نجله تيمور) عبر مذكّرة قدّمها إلى الحوار ما بدا «خريطة طريق» للخروج «بحلول حقيقية للأزمة الراهنة» ومن مرتكزاتها «رفض إعادة تجديد مقولة» تلازم المسارين «(مع النظام السوري) وهذه المرة من بوابة الاقتصاد»، واعتبار «المقترحات المطروحة بالتوجه نحو الشرق وربط لبنان بدول وأنظمة تقع خارج المنظومة الدولية تصب في إطار السعي المنهجي لتغيير وجه لبنان»، وداعية لاستعادة النقاش «حول الخطة الدفاعية (سلاح حزب الله) على قاعدة الاستفادة من قدرات المقاومة في إطار الدولة التي لا بدّ لها، أسوة بسائر الدول، أن تملك قرار الحرب والسلم في اللحظة المؤاتية».