كتب نبيل هيثم في صحيفة “الجمهورية”:
منذ بضعة أشهر، وقبل استفحال الازمة، رفع الرئيس نبيه بري الصوت وطالبَ بإعلان حالة الطوارىء الاقتصادية والمالية لاحتواء هذه الازمة، على أن تقترن فوراً بخطوات إصلاحية نوعية تضع كل القوانين المعطّلة وخصوصاً تلك المرتبطة بالعملية الاصلاحية موضع التنفيذ، وبقرارات جريئة تغلق كلّ أبواب النزف في الخزينة وفي مقدمها قطاع الكهرباء. يومها ارتبكَت السلطة، وأخذت تفتش على المخارج لهروبها من هذا الاجراء، الى أن تذرّعت بأنّ الوضع لا يستوجب اعلان حالة الطوارىء، كما انّ البلد لا يحتمل العبء المالي واللوجستي الذي سيتأتّى عنها.
بالأمس، أعاد بري طرحه من جديد، بالتوازي مع الواقع المرير الذي انحدر اليه البلد، إنما السؤال هل سيلقى هذا الطرح من يستجيب له؟
لعلّ نظرة إلى واقع حال من يفترض انهم أصحاب القرار التنفيذي، لن يبذل صاحبها عناء حتى يخرج بالحقائق التالية:
يستحيل ان يلقى ما طرحه بري في خطابه الاخير – إن لجهة دعوته الى حالة طوارىء مالية او لجهة الصورة السوداء حول الليرة و»مؤامرة الدولار»، او الاصلاحات المعطّلة – أي استجابة، طالما انّ من يفترض به ان يستجيب إمّا هو أطرش لا يسمع، وإمّا هو «متطارش» لا يريد ان يسمع، وإما انه لم يبلغ بعد مرحلة النضوج السياسي ليدرك فعلاً السقوط الذي يُدفع اليه البلد، والذي يتطلّب بالحد الادنى إطلاق النفير العام اقتصادياً ومالياً واجتماعياً وعلى كل المستويات!
ويستحيل ان تلقى تحذيرات بري أي استجابة، طالما انّ من يجب ان يرى ماذا يحصل على الارض، لا يرى كرة الدمار المتدحرجة على الواقع الاقتصادي والمالي، وتُنذر بأنّ ما تبقى من الليرة، لن يطول الوقت حتى يُمحى أثره، وبأنّ الدولار سيفلت ويحلّق عالياً ولن يجد من يمسك به، وقراءات خبراء المال والاقتصاد تتقاطع عن اعتبار انّ ما يجري في هذه الايام السوداء، ليس سوى بروفة تمهيدية للوجع الكبير الآتي، والمسألة لم تعد تُقاس بالأسابيع!
ويستحيل أن تلقى المخاوف التي انطوى عليها خطاب بري أيّ استجابة طالما انّ السلطة التي بيدها اتخاذ القرار وتنفيذه منكفئة الى ما خلف خطوط المسؤولية بمسافات ضوئية، وليست موجودة الّا بالإسم فقط، ولا تُتقن سوى ممارسة رياضة القفز من اجتماع الى اجتماع، والنتيجة لا قرارات ولا خطوات لا إنقاذية ولا إصلاحية ولا احتوائية ولا من يحزنون، فقط انجازات ورقية لا ترد رسمال الحبر الذي كتبت فيه!
قد يأتي من يقول انّ بري شريك في هذه السلطة، وهذا صحيح، لكنّه مِن قلب هذه الشراكة بادرَ مرات متتالية محرّضاً ومرغّباً ومشجّعاً ومحمّساً لهذه السلطة بأن تلتقط الزمام، ومن قلب هذه الشراكة دبّ الصوت لتصويب مسار أعرج سيوصِل حتماً الى كارثة لا قيامة منها، فباستمرار هذا المسار الاعرج لا يمكن ان يستقيم البلد، ولا يمكن ان يستمر. ومن قلب هذه الشراكة اشتغل بما يُمليه عليه إدراكه لتركيبة البلد وتوازناته الداخلية، على الوئام الداخلي وفتح القنوات بين المختلفين وفق المسلّمة الثابتة لديه: «في لبنان لا توجد عداوات بل خصومات سياسية»، سعياً لبناء ما تسمّى بمظلة الأمان الوطني، التي تشكل الركيزة الاساس للأمان الاجتماعي والاقتصادي والمالي.
وقد يبدو للبعض انّ بري وفي خطابه الأخير يدقّ ناقوس الخطر، وانّه يحاول ان يقول «اشهد انني قد بلّغت»، وقد يكون ذلك صحيحاً، بقدر ما هو صحيح أيضاً أنّ بري يعبّر في ثنايا ما قاله عمّا يشعر به من مرارة لوصول وضع البلد الى مكان مقفل. فوضع البلد وما يتهدّده في هذه الايام، يدعو الى الخوف أكثر من كل المرات التي شهد فيها لبنان تحديات وأزمات.
إنطوى ما قاله بري على الكثير من المآخذ، ودلّل من ان يقول حقل التجارب على انّ التقصير فاضح في المعالجات وفي المجالات كلها، ولعله يُفتَرض بـ»اللبيب السياسي» ان يفهم معنى وخلفية قوله إنّ صندوق النقد وأيّ دولة في العالم، لن يقدّما مساعدة للبنان ولو بقرش واحد اذا لم ننفذ الاصلاحات»، فما كان ليقول ما قاله لو لم يكن هناك من هو مصرّ على إبقاء «السلّة بلا قعر» وفي «حقل التجارب». وهنا تجدر ملاحظة انّ صندوق النقد الدولي سعى جاهداً ومن اليوم الاول للمفاوضات مع لبنان، للبحث عن سرّ الانكفاء الحكومي عن المبادرة الى إصلاحات، الى حدّ انّ وجه المفاوض اللبناني احمَرّ خجلاً عدة مرّات وهو يستمع الى انتقادات صندوق النقد وسؤاله المتكرّر: ماذا تنتظرون لكي تقوموا بإصلاحاتكم؟
ومضمون خطاب بري لا يبدو منعزلاً عن توقيته، حيث جاء في الوقت الذي بات مسلّماً به من قبل الجميع بأنّ أفق البلد صار مسدوداً، وبدأ الحديث يتزايد من انّ اختراق هذا الانسداد بات يتطلب صدمة. وقد يبدو ما بادرَ إليه بري محاولة منه لِحثّ الحكومة على إحداث «صدمة ايجابية» تَقي البلد من أيّ صدمات اخرى، وانّ الباب لم يقفل بعد، والفرصة ما زالت متاحة أمامها للانتقال من مرحلة المراوحة الراهنة الى مرحلة الانتاجية والانجاز السريع.
ولكن، هل هذه الانتاجية ممكنة؟
ثمّة من يقول انّ بري ألقى صخرة في البحيرة الحكومية كإنذار وتحذير ممّا هو آت، وبالتالي الكرة في ملعب الحكومة، التي لا بد لها ان تتلقف هذه النصيحة قبل فوات الأوان.
وثمة من يقول ايضاً انّ هذه الانتاجية تتوفّر اذا امتلكت الحكومة جرأة المبادرة واتخاذ القرار، والقدرة على محو الشعور باليأس من تمكنها ان تكون بمستوى المهمة التي يتطلبها البلد.
ولكن ثمّة في يقول في المقابل: «على من تقرأ مزاميرك يا دولة الرئيس؟»، المسار المستمر منذ شباط وحتى اليوم، مضبوط على إيقاع العجز والضعف والارتباك، وأثبتَ انه والانتاجية نقيضان لا يلتقيان. و»لو بَدها تشتّي الآن لكانت غَيّمِت قبل أشهر»