من سوريالية الأقدار اللبنانية، أن يجتمع أهل الحكم للبحث في الأوضاع العامة المتردية وهم أنفسهم من أوصلوها إلى هذا التردي، أن يتحدثوا عن تطبيق الدستور وهم من خرقوه وخردقوه، أن يحاضروا بوقف الحملات التحريضية وإثارة الفتن وهم أرباب التحريض والإفتان، أن ينظّروا في الإصلاح وهم رموز الفساد، أن يطالبوا بتطوير النظام السياسي وهم نواة تخلّفه، أن يتصدروا صفوف المدافعين عن الحريات والمعارضة وهم من “دعْوَس” الناس في الشوارع وخوَّن كل صوت معارض… ولأنّ “الحرية سقفها الحقيقة” كما نصّ بيان لقاء بعبدا، فالحقيقة تقول إنّ سبب بلايا هذا البلد هم أعجز مَن يكون عن إنقاذه. أنظروا إلى مرآة ارتكاباتكم، واجهوا الحقيقة المُرّة ولو لمرّة، لم تعد تنفع المكابرة ولا حيل التلطي خلف كليشيهات الإصلاح والتغيير، اعترفوا أمام الشعب والوطن بأنّ عهدكم فاشل وحكومتكم فاشلة وارحلوا. أخذتم ما أخذتم من مغانم السلطة، واليوم أيضاً خذوا ما شئتم لكن… “آن أن تنصرفوا”.
وتحت سقف الحرية والحقيقة، أجمع من حضر اللقاء الذي عُقد في القصر الجمهوري ومن قاطعه على أنه كان لزوم ما لا يلزم، لا هو استنبط الحلول ولا كان على مستوى الأزمة، وأقل ما قيل فيه إنّ انعقاده كان كعدمه، وأكثر ما قيل فيه إنه أساء لمقام رئاسة الجمهورية وكرّس مفهوم الرئيس “الطرف” لا “الحكم”. فالرئيس ميشال عون انتزع رسمياً أمس عن كتفه وشاح “بيّ الكل” وارتضى بنفسه لنفسه تصدّر صورة يظهر فيها “بيّ 8 آذار” واضعاً بذلك ثقله الدستوري في كفة ميزان هذه القوى في مواجهة كفة القوى السياسية والمدنية والشعبية الأخرى. هذا في شكل اللقاء، أما مضمونه فكان مملاً ممجوجاً في استخدام “فزاعة” الفتنة وضرورة تعزيز الاستقرار، وهي عناوين وتحديات يقدر بطبيعة الحال “مجلس أمن فرعي” أن يتصدى لها ولا تستدعي استنفاراً رئاسياً أقصى ما خلص إليه كان حظر “الشتيمة” بين الناس.
باختصار لقاء بعبدا، لا كان “وطنياً” ولا كان “جامعاً” كما أطلقوا عليه، فلا هو استطاع الجمع بين المكونات الوطنية ولا خرج بحلول وطنية للأزمة تسمن المواطن وتغنيه من جوع وذلّ وعوز مع خرق الدولار سقف الـ7000 ليرة، ولا حتى قارب الإمكانيات المتاحة لوقف الانهيار. مشهدية هزيلة رتيبة، لم تكسر رتابتها سوى مداخلة للرئيس ميشال سليمان “فجّة وواقعية” نأى من خلالها بإسمه عن سجل “شهود الزور”، ووضع الإصبع على لبّ المشكلة التي يتهرّب أركان السلطة من مواجهتها… لكن لا “حياد” لمن ينادي سليمان، فسلطة 8 آذار سمعت كلامه و”طنّشته” واكتفت في البيان بتسجيل تحفظه، بعد النقطة في آخر السطر.
ومن بعبدا إلى السراي، انتقل رئيس الحكومة حسان دياب ليواصل حملة “النقّ” والإقرار بالعجز عن اجتراح الحلول. فجلسة مجلس الوزراء التي عُقدت برئاسته بجدول أعمال عادي أمس سرعان ما تحولت إلى جلسة سياسية بامتياز على إيقاع استئناف عملية التحريض على حاكم المصرف المركزي رياض سلامة في معرض تنصل الحكومة من مسؤوليتها حيال تدهور سعر الليرة. ونقلت مصادر وزارية لـ”نداء الوطن” أنّ جلسة السراي تناولت بشكل مطوّل مسألة الارتفاع الجنوني المتواصل في سعر صرف الدولار، بحيث ركز دياب هجومه على سلامة محملاً إياه مسؤولية تدهور الأوضاع في البلد على المستوىين النقدي والمالي، معتبراً أنّ مجلس الوزراء ليس مسؤولاً عن إيجاد الحلول في هذا المجال بل حاكم المصرف المركزي هو المسؤول أمام الناس.
وفي سياق متقاطع، علمت “نداء الوطن” أنّ وزيرة العدل ماري كلود نجم طالبت خلال جلسة السراي أمس بأن يحصل مجلس الوزراء على “صلاحيات استثنائية” تخوّله اتخاذ قرارات معينة في ما خص النقد وسعر صرف الدولار، بمعزل عن التقيّد بتعاميم رياض سلامة وقيود قانون النقد والتسليف، غير أنّ مصادر نيابية رفيعة جزمت في المقابل لـ”نداء الوطن” بأنّ “الصلاحيات الاستثنائية” التي تحدثت عنها نجم إنما يجب الحصول عليها من مجلس النواب “وهذا ما لن يحصل أبداً لأنّه يستحيل أن يقبل المجلس ورئيسه بمنحها إلى حكومة أثبتت عجزها الفاضح في مختلف المجالات والملفات، هذا عدا عن أنّ رئيس المجلس نبيه بري الذي رفض إقالة حاكم المصرف المركزي لن يقبل حكماً بأن ينتقص من صلاحياته لصالح حكومة دياب”.
واليوم، من المقرر أن تتكثف الاجتماعات المالية في السراي، على أن تنعقد كذلك اللجنة الوزارية المكلفة متابعة موضوع سعر صرف الدولار في وزارة المال، حيث سيصار بحسب المعطيات المتوافرة إلى طرح الحلول البديلة للمقررات التي اتخذها مجلس الوزراء سابقاً وأثبتت فشلها في ضبط سوق الصرف، تمهيداً لانعقاد مجلس الوزراء الثلاثاء المقبل في جلسة مخصصة في السراي الحكومي لتدارس هذه المشكلة والبحث في الأفكار المطروحة للمعالجات الممكنة.