كتبت رلى موفّق في صحيفة “اللواء”:
بدا من البيان الختامي لـ «اللقاء الوطني» في بعبدا أنه مفتوح على تتمة، لا بل إنه تحوَّل إطاراً دائماً. البيان دعا في بنده الخامس إلى «التأسيس على هذا اللقاء» للانطلاق من بحث توافقي، من دون عُقد أو مُحرّمات، لمعالجة مفاصل الخلافات الكبيرة التي تؤجّج الانقسامات والعمل لتوحيد المواقف أو التقارب بشأنها، أقلّه حول المسائل الكيانيّة والوجوديّة التي تتعلّق بوحدة وطننا وديمومة الدولة. وأدرج البيان في هذا البند ثلاثة عناوين هي عنوان الأزمة الاقتصادية – المالية – النقدية وعنوان تطوير النظام السياسي، وعنوان موقع لبنان ودوره. وقدم مقاربات ملتبسة ضمَّنها الشيء ونقيضه في آن.
اللافت أن الأهداف التي رُسمت لـ«اللقاء» هي احتواء ما شهدته بيروت وطرابلس وقبلها صيدا من اعتداءات، والسعي للتهدئة على الصعد كافة لحماية الاستقرار والسلم الأهلي، وتفادياً لأي انفلات قد تكون عواقبه وخيمة ومدمرة للوطن، بحيث ظهر أن المُرتجى هو الاستقرار الأمني ودرء الفتنة. هي مهمة تقع أصلاً على السلطة وأجهزتها الأمنية المعنية بحماية المواطنين وممتلكاتهم كما الممتلكات العامة، فكيف إذا كان القيّمون على السلطة ورُعاتها وداعميها يمتلكون من السلاح اللاشرعي ومن فائض القوة سياسياً وأمنياً وعسكرياً ما تفتقر إليه القوى السياسية المصنفة راهناً في إطار القوى المعارضة، وذلك ليس باعترافها فقط بل باعتراف خصومها الحاكمين الذين يبنون حساباتهم على تلك القوّة ويتغنّون بها ويتّكِئون عليها في خياراتهم السياسية الداخلية وامتداداتها الإقليمية.
آل غياب جدول الأعمال والتشظي الذي يُصيب علاقة العهد ومَن وراءه بالقوى السياسية خارج الحكم إلى عدم المشاركة، فإذا بلقاء بعبدا ينحصر بلقاء أهل الحكم أنفسهم مع استثناءين تمثلا بكتلة وليد جنبلاط المُنتهج درب «المساكنة الإيجابية» خياراً سياسياً تقتضيه ضرورات المرحلة، ورئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان الذي خرج بكلمته عن كل سقوف المهادنة التي مارستها المكوّنات السياسية مع «حزب الله» منذ أمد ليس بقصير، بحيث شكلت مضبطة اتهام لـ «حزب الله» بنقضه «إعلان بعبدا»، ما حال دون تنفيذ تعهدات الدولة وتسبّب بعزلتها القاتلة، وبفقدان مصداقيتها وثقة الدول الصديقة والانتشار اللبناني والمستثمرين اللبنانيين والأجانب والمُودِعين والسيّاح بحكوماتها، ما ساهم في تراجع العملة الوطنية. وجاءت كلمته لتتحلّى بجُرأةٍ بدت لا تشبه حال التدجين الذي يطبع السياسيين حيال عنوان السلاح ومفاعيل هيمنته على القرار الوطني.
الخروج عن الطائف سيؤدي إلى الانكشاف السياسي التام وسط صعوبة الاتفاق على بديل
كان يمكن أن ينتهي مشهد بعبدا عند إسدال الستارة على اللقاء، فيتم طيّ صفحته على الخيبة التي أصيب بها، لكن البيان الصادر أسّس لفصل جديد يثير تساؤلات حول الأهداف الكامنة وراءه. فالإعلان بـ«التأسيس على اللقاء» للانطلاق في بحث عناوين وقضايا مصيرية تتعلق بمستقبل لبنان دستوراً ونظاماً سياسياً واقتصادياً وموقعاً ودوراً في هذا التوقيت الدقيق، لا يمكن النظر إليه خارج إطار محاولات الانقلاب الكامل على لبنان، في وقت يُواجه اللبنانيون تحديات في حياتهم ولقمة عيشهم وعملتهم ومدخراتهم وودائعهم ومستلزمات بقائهم، في ظل حكم وحكومة وأكثرية نيابية من لون سياسي واحد وضعت لبنان بأكمله أسير محور إيران في مواجهة انتمائه العربي وعلاقاته الطبيعية بدول الاعتدال والمجتمع الدولي، بينما المطلوب العودة الى الالتزام بالشرعية اللبنانية التي يمثلها اتفاق الطائف والدستور والشرعيتين العربية والدولية، لاستعادة توازن لبنان والبدء بمسار الإصلاحات المطلوبة من أجل بناء الثقة داخلياً وخارجياً للخروج من الانهيار المحتوم الذي ينتظر البلاد.
فليست طروحات تطوير النظام المترافقة مع طروحات التوجه نحو الشرق سياسياً واقتصادياً واستخدام هذه الورقة سوى مغامرات غير محسوبة ووصفة للإضراب الداخلي. وتبرز في هذا الإطار الورقة السياسية والاقتصادية التي قدّمها رئيس اللقاء الديمقراطي تيمور جنبلاط باسم الحزب التقدمي الاشتراكي و«اللقاء الديمقراطي»، والتي دعت من ضمن الثوابت إلى التأكيد على التمسك بـ «وثيقة الوفاق الوطني» (اتفاق الطائف) التي ترقى إلى مستوى التفاهم الميثاقي بين اللبنانيين، والذي قد يُشكّل تجاوزه توليد مخاطر ومغامرات غير محسوبة نظراً إلى حجم الانقسامات السياسية العميقة بين اللبنانيين وصعوبة الاتفاق في اللحظة السياسية الراهنة محلياً وإقليمياً على اتفاق بديل، ما سيؤدي إلى الانكشاف السياسي التام في البلاد. وهي ذكَّرت، تزامناً مع مئويّة لبنان الكبير، بأن الوثيقة قد حسمت أيضاً نهائيّة لبنان وعروبته في وجه طروحات التقسيم أو الفيدراليات أو الاستلحاق بأي دولة أخرى، مع الانتعاش المتجدد لنظريّة «سوريا المفيدة» وسواها من العناوين والمشاريع.
تأكيد يؤشّر على حجم المخاوف التي تُحيط بلبنان راهناً، حيث تشتد المواجهة الأميركية مع إيران وأذرعها والتي جاء قانون قيصر ليسدد ضربة موجعة لـ«المحور» في الحديقة الخلفية الاقتصادية والمالية للنظام السوري والسعي إلى قطع شرايين الحياة التي تمده بالأوكسجين كما تمد النظام الإيراني، الأمر الذي قد يدفع بأركان «المحور» الذهاب بعيداً في المواجهة بتنفيذ التهديد حول الخيارات الأخرى المتاحة أمام لبنان، ولو أدت إلى تغيير وجهه نهائياً وقطع أوصاله مع الغرب والعرب وأضحى «غزة ثانية».
قد يكون ما هدف إليه المجتمعون في بعبدا إرسال رسالة تهويل لمن اختار ليّ ذراع المنظومة الحاكمة وحرمانها غطاء سياسياً وصورة جامعة تعوّمها، والدفع تالياً بالمعتذرين عن المشاركة في الجولة الأولى إلى إعادة حساباتهم حين توجه الدعوة للجولة الثانية، لكنه أيضاً قد يحمل أبعاد نقل العدسة عن الانفجار الاجتماعي الآتي لا محالة!