كتبت أنديرا مطر في “القبس”:
سؤال واحد يستحوذ على اهتمام اللبنانيين المتزايد احباطهم وقلقهم على المستقبل: «الى اين سنصل؟». فالانهيار الاقتصادي يتدحرج ككرة ثلج مخلفا صورا مأساوية على الواقع المعيشي والاجتماعي، مع تحليق سريع في سعر الدولار واقتراب الليرة من فقدان 90 في المئة من قيمتها. فيما المعالجات المرحلية التي تبتدعها الحكومة لوقف انهيار سعر الصرف اثبتت فشلها، ولم تؤد الى تخفيف الضغط عن المواطن وانما راكمته حد الانفجار. «الاختناق يزداد يومياً ويعلو منسوب الوجع ولا من يسمع ولا من يرى»، بحسب توصيف صحيفة النهار، فكلّ عوامل الانفجار أو الموت اكتملت. واصطفاف الناس طوابير امام الافران للحصول على ربطة خبز في مشهد لم يألفه اللبنانيون منذ انتهاء الحرب الاهلية، جسد صورة حقيقية لمستقبل البلاد التي لم يعد الحديث عن أزمة غذائية وجوع مجرد تهويلات مع وصول السكين الى رغيف خبز المواطن. وفي هذا السياق يأتي كلام النائب السابق وليد جنبلاط، المعروف براداراته التي لا تخطئ، بأننا «ذاهبون إلى حالة أسوأ. الحياة ستكون مختلفة. الليرة لن يوقف تدهورها شيء وحياة الرفاهية انتهت وسنعود إلى أيام الأجداد».
مع وصول الدولار في السوق السوداء أمس حدود 8000 ليرة، وسط ترجيحات بأن يسجل عشرة آلاف ليرة يوم الاثنين، فقد عمد كثيرون من أصحاب المحال التجارية الى اقفال أبوابهم «لأنهم باتوا في ضياع، مع تغير أسعار السلع بين دقيقة وأخرى». وقد أصبح واضحا أن العديد من السلع اختفت من رفوف المحال، اما لتضاؤل الطلب عليها بعد ارتفاع سعرها بشكل جنوني، واما لأن بعض التجار، عمدوا الى تخزينها لبيعها بسعر أغلى، أو لسبب فقدانها نهائياً بسبب عدم القدرة على استيرادها. وفي مشهد صاعق وغير مألوف من زمن بعيد، شهدت افران في مناطق عدة في لبنان إقبالا وتهافتا على شراء الخبز بعد الحديث عن امتناع الافران عن التوزيع للمحال. فقد فوجئ أصحاب المحال بتوقف موزعي الخبز على المؤسسات عن التوزيع، ما أجبر الاهالي على اللجوء الى تأمين الخبز من محال تبيع ربطة الخبز بزيادة الفي ليرة عن سعرها الرسمي.
وأكد نقيب الأفران، أننا «سنستمرّ بعدم تسليم الخبز حتى إيجاد الحل لخسائرنا». والى الخبز المتعذر، هم آخر يضاف الى لائحة الهموم، ويتعلق بالتعرفة الجدية لـسياراى الأجرة «السرفيس»، اذ ان كل المؤشرات ترجح مضاعفة سعرها الحالي لتصل الى 4000 ليرة. بالموازاة، كثيرة ومقلقة هي الأرقام والبيانات المالية والنقدية، ومن أخطرها ارتفاع حجم النقد المتداول ما يسبّب ارتفاعاً في الأسعار وتضخماً من الصعب لجمه، كما يسبّب ارتفاع الطلب على الدولار. وقد تطوّر حجم هذه السيولة بالليرة اللبنانية في السنوات الماضية، إذ ارتفع حجمها من 3253 مليار ليرة في 3 حزيران 2010، إلى 25 الف مليار في 4 حزيران الفائت، أي بارتفاع مقداره 21746 مليار ليرة ونسبته 668 في المئة. البعبع الأمني جاهز ما يفاقم المخاوف المحلية والدولية، ليس الجوع وحده، وانما ما سيخلفه من توترات امنية وفوضى اجتماعية بدأت اصداؤها تتردد دوليا من خلال «توقعات» بحرب أهلية على اما أودت جريدة التايمز البريطانية التي أوردت إن لبنان بات اليوم يعيش فعليا ضمن مفاهيم ومنظور «الحرب الأهلية الجديدة». مذكرة بالتحركات الاحتجاجية، وتحول بعضها إلى اشتباكات تأخذ منحى مذهبيا احياناً، بشكل أعاد خطوط الصدع التي تميزت بها الحرب الأهلية. معطيات محلية ودولية تذهب في هذا الاتجاه لتؤكد ان الانهيار الذي يغرق فيه لبنان قد لا يقف عند حدوده المعيشية والاقتصادية في حال استمرت السلطة في حالة الانكار، وفي معالجة سرطان الازمة بالمسكنات فيما هي تبيع كل شيء لتشتري الوقت. والبيع هنا، وفق مصدر دبلوماسي يشمل الدولة والمواطن، معتقدة ان المقبل من الأيام سيحمل لها بشرى ما من صندوق النقد الدولي او من تغيّرات في السياسة الأميركية بعد الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني قد تعمل لمصلحتها. وفي الأثناء، يطلب من اللبنانيين ان يتحملوا تكلفة صمودهم بانتظار تسوية غير واضحة الأفق، وخدمة لإنقاذ النظام السوري من قانون قيصر. وفيما هي تنتظر تسوية دولية، تلجأ السلطة اليوم على جاري عادتها عند اشتداد ازماتها، الى التلويح بالبعبع الأمني وتخويف اللبنانيين بعناوين وسيناريوهات حفظوها.
فبعد كلام رئيس الجمهورية ميشال عون في لقاء بعبدا الأخير عن «مناخ الحرب الأهلية» مع تحول الاحتجاجات الاقتصادية إلى طائفية متحدثا عن «حركات خرجت بطريقة مشبوهة، بعضها يستخدم غضب الناس والمطالب الشرعية لزرع العنف والفوضى من أجل تحقيق أجندتها»، أخرج وزير الداخلية محمد فهمي أرنب «داعش» من جيبه، لافتا الى أن التطورات والأحداث التي تحصل في محافطة إدلب السورية، ستودي إلى نزوح سوري جديد إلى لبنان مع إمكانية تسرّب عناصر من «داعش» بينهم بهدف افتعال أحداث في البلاد. وفيما يبدو ان السلطة لن توفر وسيلة للدفاع عن نفسها، امام خطر وجودي كهذا، تتجمع في سمائها غيوم دولية لا تلعب لمصلحتها وتتكشف يوما بعد يوم مع تزايد الضغوط الأوروبية والاميركية عليها لتضييق الخناق على حزب الله سعيا الى إخراجه من الحكومة، بل من المعادلة السياسية برمتها. ففي غضون أسبوع توالت التصريحات الأميركية محملة حزب الله مسؤولية انهيار الوضع، وفحواها: لدعم لبنان على الخروج من أزمته عليه تشكيل حكومة مستقلين لا يسيطر عليها حزب الله أو يقودها، والشروع في إصلاحات جذرية تؤهلها للحصول على مساعدات المجتمع الدولي. أربعة مواقف اعادت لبنان الى دائرة الضوء الأميركي بعد تجاهل طويل. فللمرة الأولى، يخرج مسؤولون أميركيون ليردوا على امين عام حزب الله حسن نصرالله بالاسم. ليس كلام الاميركيين وحده ما يقلق الحكومة اللبنانية.
الفرنسيون والبريطانيون، يتلاقون مع الموقف الأميركي حد التطابق، وهم دأبوا في الفترة الأخيرة على تمرير رسائل تشي بتغير موقفهم الداعم للحكومة. اضافة الى مواقف المجموعة العربية. الصفعة الأخرى التي تلقتها الحكومة، واعتبرها البعض نعيا للمفاوضات مع الصندوق، تجلت في تصريح لمديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغيفا في معرض توصيفها الوضع اللبناني والذي طغى عليه الطابع الوجداني، اذ استخدمت عبارة «قلبي ينفطر على لبنان»، ملمحة الى ان الحكومة غير قادرة على إنجاز الإصلاح. المواقف الأميركية والدولية وضعت لبنان أمام خيارين: إما مواصلة انحداره نحو المجهول، وإما إيجاد تسوية على سلاح حزب الله. يعني عملياً تخييره بين الجوع او السلاح. وهذه المعادلة أصبحت واضحة بالنسبة إلى حزب الله وقد مهد لها نصرالله قبل أيام بالقول: «من يرد أن يجوعنا فسنقتله، سنقتله، سنقتله». ففي تماهٍ مع أدبيات الحزب، نشر الشيخ صادق النابلسي، استاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية، الذي درج منذ أسابيع على إطلاق الرسائل للداخل بإيعاز من حزب الله، تغريدة هدد فيها بـ«7 ايار» جديد وبالقمصان السود على خلفية قطع طريق الجية نحو الجنوب، معتبراً أن خطوط مواصلات الناس هي خطوط اتصالات المقاومة. وللتذكير فإن حوادث 7 ايار 2008 شكلت هيمنة كاملة لحزب الله على بيروت، إذ انتشرت مجموعات مسلحة موالية له في أحياء بيروت، وقاموا بعمليات خطف وقتل على السكان العزل. إلى ذلك، وفي خطوة غير دبلوماسية، أصدر قاضي الأمور المستعجلة في صور محمد مازح قراراً يمنع السفيرة الاميركية في لبنان دوروثي شيا من التصريح عبر الاعلام. وعلقت شيا قائلة: «سفيرة الولايات المتحدة لن تسكت.. وسمعنا اعتذاراً من الحكومة عن قرار هذا القاضي». شارل عربيد لـ القبس: قلق من فوضى نتيجة الجوع والبطالة والفقر القبس توجهت الى رئيس المجلس الاقتصادي في لبنان شارل عربيد لسؤاله عن جدوى الخطط الحكومية في ظل انعدام ثقة المواطنين وتزايد الضغوط الاجتماعية والمعيشية عليهم، فرأى ان الحكومة لم تقدم حتى الآن معالجات جدية. فهي منهمكة بالتفاوض مع وفد صندوق النقد الدولي الذي سيطول من دون معرفة آفاقه ونتائجه. يؤكد عربيد تلازم الانفراج السياسي مع الانفراج الاقتصادي، مذكرا باقتراحات اطلقها المجلس الاقتصادي قبل أيام لتسهيل عمل المؤسسات بهدف الحفاظ على فرص العمل والعمال المهددين بالصرف من أشغالهم في ظل الأوضاع الاقتصادية السيئة على الجميع.
حل المعضلة اليوم، حسب عربيد، يكمن في استعادة التدفقات المالية من الخارج والتي تتأمن بخمس خطوات تبدو كلها متعثرة وغير واقعية: تصدير السلع والمنتجات اللبنانية المعطلة لأن هذه تحتاج مواد أولية تحتاج بدورها للعملة الصعبة المفقودة، استعادة الحركة السياحية، وهي الأخرى متوقفة بسبب انعدام الثقة والاستقرار، واستعادة تحويلات المغتربين. وهنا يسجل عربيد عتباً كبيرا من هؤلاء على الدولة والمصارف التي تحتجز أموالهم وجني عمرهم، وهم أوقفوا معظم تحويلاتهم، حتى تلك التي يرسلونها لأهلهم عبر شركات التحويل التي تعطيهم إياها بسعر دولار لا يتجاوز نصف سعره في السوق السوداء، والاستثمار الأجنبي، وهو متوقف كليا. والمساعدات المالية والقروض من مؤسسات وجهات مانحة، التي نعلم أنها مجمدة للأسباب السياسية المعروفة. في المحصلة، لا يلوح في نهاية النفق اللبناني أي بارقة ضوء حاليا. اما الحل برأي عربيد فهو بالذهاب الى تسوية تاريخية تشاركية لا تستثني أحدا في لبنان، قوى سياسية وأحزابا ومجموعات مدنية، للتوافق على صيغة جديدة بعد موت الصيغة الحالية، اقتصاديا واجتماعيا ومجتمعيا. واضاف: «نحن في منظومة أخرى لم تتشكل هويتها بعد». وعن تصوره لمستقبل لبنان يقول عربيد بأسف: «قلق، قلق، من الفوضى التي ستنتج عن الجوع والبطالة والفقر».