في حين حملتْ الأيامُ الأخيرةُ “كشْفَ الأوراقِ” خارجياً حيال أفق الأزمة اللبنانية السياسية – المالية – المصرفية – النقدية – الاقتصادية – المعيشية على قاعدةِ معادلةٍ واضحةٍ عنوانُها “إما دويلةُ حزب الله والتسليم بسيطرتها على لبنان” و”إما النهوض الاقتصادي”، تزداد في بيروت مؤشرات البؤس الاجتماعي التي حوّلت البلاد قنبلة موقوتة يُخشى أن تنفجر في الجميع وسط مخاوف من التسابُق على شيْطنة الغضب الشعبي.
ولم تنظر أوساطٌ مطلعة بارتياحٍ إلى صعود عنوان الخطر الغذائي على لسان مسؤولين في حزب الله، وذلك بعد كلامٍ لرئيس الجمهورية ميشال عون اعتبر فيه ان “همّنا الأول الآن تحقيق الاكتفاء الغذائي للشعب الى جانب الأمن وسنقوم بهذا الواجب من ضمن قدرات الدولة التي باتت محدودة للغاية الآن”.
ورأت أن تظهيرَ هذا الخطر، إلى جانب ما يعكسه من حقائق مؤلمة على صعيد الوضع المعيشي للبنانيين الذين يواجهون التداعيات الكارثية لانهيار عملتهم الوطنية أمام الدولار والصعوبات المتزايدة في توفير ممرات آمنة مصرفياً لاستيراد السلع، يؤشر إلى أن الائتلافَ الحاكم وبإزاء ما يعتبره محاولةً للإمساك بالبلد من اليد التي تؤلمه مالياً – اقتصادياً قرّر المضيّ في مسار حلولٍ من حواضر البيت بعيداً من ملامسة أصل المشكلة بشقيّها الإصلاحي والسياسي الذي يرتكز على العمل بطريقة لا تجعل الحكومة رهينة لحزب الله وفق السقف الأميركي الذي تلاقيه دول خليجية وأوروبية لم تعد ترى مفراً من أن يختار لبنان بين المحور الإيراني أو الشرعيتين العربية والدولية لفتْح باب المساعدة له.
وفيما كانت رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا تكمل نصاب هذا المناخ بما يشبه «نعي» المفاوضات مع بيروت حول برنامج تمويل إنقاذي بإعلانها «المناقشات مستمرة، لكن ليس لدينا أي سبب حتى الآن للقول إن هناك تقدماً»، وصولاً إلى إشارتها المدجّجة بالدلالات حيال الأفق المقفل للوضع «الذي يفطر قلبي، لأن البلد له ثقافة قوية في ريادة الأعمال»، أبدت الأوساط المطلعة نفسها خشيةً من جرّ البلاد إلى مواجهة مباشرة مع واشنطن واستدراج أزمة ديبلوماسية على خلفية الكلام العالي النبرة للسفيرة الأميركية دوروثي شيا حيال «حزب الله» والذي أعقبه قرارٌ مثير للجدل لقاضي الأمور المستعجلة في صور محمد مازح «منع بموجبه شيا من التصاريح الإعلامية، كما يمنع أي وسيلة إعلامية لبنانية من أخذ تصريح لها في هذا الإطار»، وهو ما تزامن مع حملة على موقع «تويتر» أطلقها نجل الأمين العام للحزب جواد حسن نصرالله ضدّ السفارة الأميركية ترافقتْ مع دعوات للتظاهر في محيطها اليوم باعتبارها «وكر التجسس وصنع المؤامرات والفتن».
ولم تتأخّر السفيرة الأميركية والإعلام اللبناني في كسْر هذا القرار القضائي الذي اعتُبر انتهاكاً للمعاهدات الدولية وإساءة للبنان وللحرية الاعلامية، فأطلت شيا عبر شاشة «ام تي في» واصفة القرار بأنه «للإلهاء»، ومتمنية «لو تركّز الجهد على محاولة حل المشاكل التي تواجه لبنان الذي يعاني أزمة اقتصادية جعلت الناس يقلقون على كيفية تأمين الطعام على موائدهم»، ومضيفة: «لن يتم إسكات السفارة الأميركية، وتلقينا اعتذاراً من الحكومة اللبنانية عن القرار، ويجب أن تبقى حرية التعبير للشعب اللبناني مصانة».
وإذ كانت الاندفاعة المتشدّدة ضدّ «حزب الله» والضاغطة على لبنان الرسمي تُستكمل بما كُشف عن توجيه نواب أميركيين من الحزبين الديموقراطي والجمهوري في الكونغرس دعوة للاتحاد الأوروبي لتسمية «حزب الله» بجناحيْه العسكري والسياسي منظمة إرهابية وحظر أنشطته، أعربت الأوساط المطلعة عن مخاوف كبرى من أداء السلطة التي وفي موازاة إدارتها الظهر للأصوات الغربية والعربية المتصاعدة، تبدو داخلياً وكأنها تقف «على تلة» تراقب الواقع الاقتصادي – الاجتماعي «يحتضر» على وقع استمرار العملة الوطنية بالسقوط الحرّ أمام الدولار حيث اقترب سعر الصرف من الـ8000 ليرة لكل دولار، فيما يتبارى الائتلاف الحاكم في استدراج معارك سياسية – دستورية وآخِرها تحت عنوان «تطوير النظام».
وبدا هذا الأداء في رأي المصادر «غير متناسبٍ» مع «شبحِ الجوع» الذي يزداد حضوراً في يوميات اللبنانيين الذين يجدون أنفسهم بمواجهة ظواهر مأسوية غير مسبوقة تُستحضر معها كوابيس مجاعة الحرب العالمية الأولى وكوارثها المفتوحة على خطر «كورونا» الدائم والذي يستعيد وتيرته التصاعدية حيث سجّل في اليومين الماضيين 57 حالة جديدة رفعت العدد الإجمالي إلى 1719.
وإذ صُعق اللبنانيون بانكشاف لجوء بعضهم إلى مقايضة ألبسة وأحذية ومقتنيات منزلية بمواد غذائية أساسية وحليب أطفال وحفّاضات، دهمتْهم أزمة رغيف جديدة مع توقف أصحاب الأفران عن تسليم الخبز للمحلات التجارية والسوبرماركت عبر الموزّعين على خلفية الارتفاع الجنوني في سعر الدولار.
وفي حين استدرج هذا القرار اصطفافَ اللبنانيين في مناطق عدة بطوابير طويلة أمام الأفران لشراء الخبز وصولاً إلى تأمينه من السوق السوداء، لم يقلّ سوداويةً كلامٌ جرى تناقُله بالصوت والصورة للزعيم الدرزي وليد جنبلاط أكد فيه أن «الليرة ما في شي بهدّيها»، مشيراً إلى أن «حياة الرفاهية انتهت وسنعود إلى أيام أجدادنا والحياة ستكون قاسية جداً»، متحدثاً عن «غلاء اللحوم وانقطاع التيّار الكهربائي والمزيد من التقنين»، وموضحاً أنه يقوم بجهد من أجل تأمين الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي بالقمح والمازوت في الجبل.
وأنذرت هذه الوقائع بان الاحتجاجات في الشارع تتّجه إلى مرحلة أشدّ قسوة يُخشى أن تَستدرج صِدامات أو اضطرابات ولا سيما بعدما قوبل قطْع طريق الجنوب الجمعة بتحذيرات من قريبين من «حزب الله» باللجوء الى «القمصان السود» لفتْحها وصولاً إلى إعلان النائب علي بزي أمس، أن «الجنوبيين يعرفون تماماً كيف يفتحون الطرق».