عماد الشدياق -“أساس ميديا”:
هو أمين بيت المال اللبناني والمرشح الدائم لحاكمية مصرف لبنان. صاحب “التوقيع الخامس” في الجمهورية، إن صحّ قول ذلك ربطاً ببدعة “التوقيع الرابع” المنسوب إلى وزير المالية “الشيعي” دوماً. زُرع مديراً عاماً لوزارة المالية عام 2000، في حمأة هيمنة النظام الأمني اللبناني – السوري على المشهد السياسي، ليكون “مسمار جحا” طويلَ العمر، بعيدَ التقاعد، نسبةً إلى صغر سِنّه، وليكون رقيباً على “الحريرية السياسية” في هذا المركز الماليّ الحساس.
هو الشاهد الصامت على “فساد” السلطة منذ أكثر من 20 عاماً. من بين يديه مرّ سيلٌ جارفٌ من البيانات والأرقام المقبلة من مغائر “علي بابا”، في الدوائر العقارية والجمارك والضرائب المباشرة وغير المباشرة والإعفاءات والتجاوزات. يعلم كلّ قرشٍ أين يُصرف، ومن أين يُحَصّل في هذه الجمهورية.
مُولّع بحبّ الظهور. كسولٌ إدارياً ونشيطٌ طامحٌ دائماً لأيّ دورٍ سياسيّ. ميوله تفضحها مواقع التواصل الاجتماعي، حيث كان يتفرّد كمدير عام في الجمهورية اللبنانية، بامتلاك صفحة عامة (وليس حساباً شخصياً) على منصة “فيسبوك”، يردّ من خلالها على التُهم التي تطاله، مطلقاً البيانات والتوضيحات.
أما موقعه الالكتروني الخاص الممهور باسمه، فيستقبلك بصورة احترافية شبه ملوّنة، على غرار “إنفلوانسرز” السوشل ميديا (المؤثّرون) وممثّلي هوليوود، كاتباً تحتها بكلّ ثقة: “أنا من كرّس نفسه لرفاه من يعيشون على الأراضي اللبنانية”.
يا للهول!
على موقعه الإلكتروني، “يُؤرشف” بيفاني حواراته الصحافية ولقاءاته وإطلالاته التلفزيونية كلّها، فيُبَسّط لك البحث والتقميش في مكان واحد لرصد تحوّلات مواقفه الإدارية – السياسية مع مرور الزمن.
في مقارنة بسيطة بين كلام الأمس واليوم، حول فضيحته التاريخية في سوء تقديره لسلسلة الرتب والرواتب، تكتشف سريعاً كيف تحوّل بيفاني إلى ذاك “البريء” الذي “لا يعلم”، فيرسم لنفسه صورة “المغلوب على أمره” الذي استفرد به وزراء المالية المتعاقبون، بلا استثناء.
سوء التقديرات في سلسلة الرتب والرواتب، الذي تخطّى هامش الخطأ فيها 1.3 مليار دولار، يلاحقه بلا هوادة، برغم الحجج التي يسوقها عن ضمّ العسكريين والأساتذة إليها لاحقاً، وبالتالي تعرُّض أرقامها للتضخّم داخل مجلس النواب، بحسب ما يدّعي.
مقارنة هذه الحجج بتصريحاته على موقعه الإلكتروني في حينه، بُعيَد إقرار السلسلة، يكشف أنّه كان موافقاً على هذه الأرقام ولم يُظهر أيّ اعتراض خلال الاجتماعات التي شارك بها داخل مجلس النواب. بل على العكس من ذلك، كان يعتبر أنّ السلسلة غير عادلة وكان يمكن أن تُنصف الموظفين أكثر (جزء من مقابلة متلفزة مع قناة OTV مرفقة أدناه)… لكن رغم ذلك لم يُحاسَب، بل كوفِىء بتعيينه ضمن الفريق المولج بالتفاوض مع “صندوق النقد الدولي”.
هو محسوب على الوزير جبران باسيل، وكان يشغل إلى جانب الإدارة العامة لوزارة المالية، منصب عضو في المجلس المركزي لمصرف لبنان، الأمر الذي يُحمّله جزءاً إضافياً من المسؤوليات والتُهم الملقاة على عاتق مصرف لبنان وحاكمه رياض سلامة، الذي باتت تبعده عن بيفاني علاقة سيئة، فيسعى كلّما سنحت الفرصة إلى تسويقِ نفسه بديلاً منه.
لعلّ آخر هذه المحاولات، كانت خلال الزيارة التي قام بها “من خارج السياق العام” وبلا انتدابه من الوزير المعنيّ، إلى السفير السعودي وليد البخاري قبل أيام، مكرّساً سابقة في تواصل موظّف برتبة مدير عام مع سفير دولة أجنبية في منزله، من أجل البحث معه في “التطوّرات المالية والاقتصادية” و”القضايا ذات الاهتمام المشترك”، بحسب ما قيل في حينه. وقد ضرب بعرض الحائط الصلاحية السياسية لوزير المالية غازي وزني، الذي تسلّم استقالة بيفاني، بعد لقاء عاصف جمعهما في الوزارة، كما أُشيع في الساعات الماضية.
قيل يومها أيضاً بحسب مصادر، إنّ زيارته كانت من باب التودّد إلى المملكة المنكفئة عن الملف اللبناني، وفُسّرت الزيارة على أنّها خطوة التفافية أو مناورة مشابهة لتلك التي يقوم بها مُسيّره الخفي جبران باسيل تُجاه الغرب وحلفائه في المحور المقابل لممانعين ممن يتحالف معهم. كلّ هذا بحثاً عن كرسي الرئاسة في بعبدا، التي أمست من الأطلال.
طموحات بيفاني السياسية دفعت به إلى نسج علاقات خارج لبنان، فتربطه علاقات غربية كثيرة بصحافيين ومراكز أبحاث في الولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى مكاتب تحقيقات مالية في فرنسا التي يزورها بين الحين والآخر. ويبدو أنه استقال ليلجأ إليها مجدّداً فور فتح المطار، بحسب معلومات خاصّة.
من جملة هذه العلاقات، ربطته علاقة وثيقة بشخصية فرنسية، أثير حول اسمها واسم شركة تملكها، أسئلة وعلامات استفهام. تطوّرت إلى دعاوى قضائية طالت صحافيين وموقعاً إلكترونياً لبنانياً مؤخراً. ويقال إنّ بيفاني كان في الماضي من أشدّ مشجعي هذه الشخصية على الاستثمار في لبنان، لكن يبدو أن الآية قد انقلبت.
شهادة الشخصيات التي كانت ولا تزال تعمل مع بيفاني، وخَبِرته عن قرب، تقول فيه ما لم يقله مالك في الخمرة: “شخصية جشعة”. يريد كلّ شيء”، و”يحمل كرهاً لا يوصف لرفيق الحريري ومسيرته السياسية”، و”لا يؤتمن على سرّ”. مرات كثيرة كان بيفاني “يُسرّب” محاضر اجتماعات الوزارة إلى الصحف، ويُعرف أنّه المسرّب في اليوم التالي ولا يهتمّ.
بعد عودة الرئيس ميشال عون من فرنسا، تحوّل بيفاني إلى العونيّة السياسية، وصار في تلك المرحلة بمثابة port parole خاص للرابية. أخبار وزارة المالية كانت تُنقل بتفاصيلها إلى “الجنرال”. يوم كان الرئيس فؤاد السنيورة وزيراً للمالية، “حاول كثيراً أن يستوعبه لكنّه فشل”. كما حاول الوزير الراحل محمد شطح أن يفعل الأمر نفسه، ونجح نسبياً، لكن الأمر انتهى في نهاية المطاف بـ”إقصاء بيفاني عن أغلب الاجتماعات” الخاصة بالوزير شطح.
يوم كان جهاد أزعور وزيراً للمالية، تقدّم بيفاني بطلب إجازة من دون راتب للبحث عن وظيفة خاصة في الخارج، فترك وزارة المالية لفترة، ثم عاد إليها بعد أن تعذّر تأقلمه في أجواء العمل ضمن القطاع الخاص، فعاد إلى “جنّة” الإدارة اللبنانية.
مرّات كثيرة كان ينسى بيفاني أنّه المدير العام لوزارة المالية، فيسترسل في اتّهام وزراء المالية المتعاقبين بالتقصير. آخر تهمه أطلقها ضدّ الرئيس فؤاد السنيورة، وذلك في مؤتمر صحافي عقده من دون موافقة وزيره علي حسن خليل في 2019. اتّهم بيفاني السنيورة بعدم إجراء قطع حساب السنوات الماضية وفق الأصول ابتداء من عام 2001، متناسياً أنه كان المسؤول الأوّل عن هذه المهمة في السنوات العشرين الماضية. لكن ما لم ينسَه بيفاني أبداً في حينه هو طلب مكافآت للموظفين الذين نفّذوا قطع الحسابات. تلك التي يتّهم الوزراء المتعاقبين بأنّها لم تحصل (مرفق جزء من الملفات أدناه)، ناهيك عن كُتُب الشكر والتهنئة التي كان يوجّهها إلى المستشارين المتعاقبين، ثم يتّهمهم بالتدخّل والتقصير.
ملفات غير قليلة أُثيرت ضدّه في الاعلام مؤخراً، منها ملفّ اتهامه بأنّه هرّب أموالاً إلى خارج لبنان، من خلال بيع حصّة في شركة مستلزمات طبية تملكها زوجته. يقول مطلعون على الشأن المالي لهذه الشركة وعلى خفاياها في وزارة المالية ووزارة الصحة خصوصاً، إنّ ملفاتها كانت تسلك – بفضل نفوذ بيفاني في الوزارة طبعاً – “خطاً عسكرياً سريعاً” داخل “المالية”، فتحصل على أموالها من خزينة الدولة قبل كلّ عقود النفقات الأخرى.
بعيداً عن السفرات السنوية لبيفاني على حساب الوزارة المالية، فإنّ مداخيله السنوية من خزينة الدولة تُعدّ خيالية نسبة إلى رتبة مدير عام، وذلك بفضل عضويات مجالس الإدارة التي كان يشغلها، وهي تتراوح بين 100 و120 ألف دولار سنوياً.
إلى جانب منصب المدير العام لوزارة المالية، كان عضواً في مجلس إدارة تعاونية موظفي الدولة، وكذلك كما ذكرنا آنفاً، عضواً في المجلس المركزي لدى مصرف لبنان، الذي يلتئم كلّ أسبوع وبحضور بيفاني منذ 20 عاماً، لبحث السياسات النقدية لمصرف لبنان. فهو ممثّل الدولة في اجتماعات المجلس ويوقّع على المحاضر، ويشترك من خلال التصويت في اتخاذ قرارات كثيرة، منها منح التراخيص للمصارف وفتح فروع لها، وخصوصاً البتّ بطلبات إقراض الدولة أموالاً لم يعترض أو يسجّل تحفظاً على قرار واحد منها يوماً… فيُتّهم مصرف لبنان والمصارف منفردين بالموبقات النقدية والمالية، ثم تُطلق يد بيفاني داخل الحكومة من أجل وضع “خطة إنقاذية” يقال إنّها كانت ستنتشلنا من ضنكٍ، هو نفسه شارك في توقّيع مستندات وقوعنا فيه وفي صياغة قرارات أوصلتنا إليه.
بعد أن “نذر نفسه لرفاه اللبنانيين” ها هو اليوم يقفز من المركب قبل غرقه كلياً وقبل انهيار العملة، ربما بحثاً عن مدخول “فريش موني” دولاري في جنان المؤسسات المالية في الخارج. ولعلّه، في مؤتمره الصحافي الذي أعلن استقالته خلاله، قال جملة يمكن وصفها بأنّها تهين عقول اللبنانيين: “أرفض أن أكون شاهد زور”. هو الذي ظلّ شاهداً على كلّ ما حصل في مالية لبنان طوال 20 عاماً.
مع رحيل بيفاني، يمكن الاستنتاج أنّ الخطة الحكومية قد طارت، بمعدّيها. مبروك للبنانيين…
https://www.youtube.com/watch?v=wvHjeEEDtMc&feature=emb_logo