“لم يعد هناك وقت والبديل الوحيد عن الإصلاح هو مشاهدة لبنان يتدهور”… عبارة موجزة اختصر فيها السفير البريطاني كريس رامبلنغ “الداء والدواء” في المعضلة اللبنانية حيث لا ترياق لفساد السلطة سوى بجرعات إصلاحية مركّزة وفورية في بنية الدولة لوقف تفشي سموم أهل الحكم في أوردتها وإعادة الثقة بالقدرة على إعادة إنعاش النبض الاقتصادي والنقدي في البلاد. هذا هو التشخيص الذي يتقاطع عنده كل خبراء المعمورة إزاء الحالة اللبنانية الميؤوس منها، لكنّ حكومة 8 آذار لا تزال تصرّ على سياسة “البكاء فوق راس الميّت” والندب واللطم على “التركة الثقيلة”، ورئيسها حسان دياب لا ينفك يتشدّق بإنجازات خُلّبية لا تباع ولا تصرف في سوق الأزمة السوداء… وها هو تباكى بالأمس أمام مؤتمر بروكسل على “الإرث الثقيل” وتباهى بما تقوم به حكومته من “ورشة إصلاحات اعتمدت على الشفافية والمحاسبة”!
عن أي ورشة؟ وعن أي إصلاحات؟ وعن أي شفافية؟ وعن أي محاسبة؟ تتحدث دولة الرئيس! كفى “استهبالاً” للداخل والخارج، إستفق من أضغاث أحلامك، واجِه مرآة الواقع لترى إنجازاتك على حقيقتها: ارتهان سياسي كامل، تحاصص وتناتش في التعيينات، تعطيل في التشكيلات القضائية، تمييع لإصلاح الكهرباء، ميوعة في ضبط المعابر وتهرّب من وقف التهريب، تعاظم في مستويات التضخم وتدهور في قيمة الليرة، تخبط في أرقام الخطة المالية، تعثر في مفاوضات صندوق النقد، إنهيار مالي ومعيشي واقتصادي وتجاري وصناعي ومصرفي، تعاظم في مستوى التضخم والجوع والبطالة والعوز… وصولاً إلى المسّ بلقمة الجيش نفسه و”نهش” لحمه وحرمان عناصره من وجبة دسمة يقتاتون عليها، لا لشي سوى لتشدّ من أزرهم وتمكّنهم من الاستمرار في مهمة الوقوف سداً منيعاً يقي الطبقة الحاكمة غضب ثورة الجياع، لا سيما وأنّ قادة الأجهزة العسكرية والأمنية حذروا بالأمس أمام المجلس الأعلى للدفاع من تداعيات كارثية وشيكة جراء تفاقم الأزمة المعيشية مؤكدين بحسب مصادر المجتمعين لـ”نداء الوطن” أنّ “الوضع بات أكثر خطورة من ذي قبل وما يرونه على الأرض أصبح ينذر بالاسوأ اجتماعياً وأمنياً وبالتالي يجب أن ترتكز الحلول على معالجة مسببات الأزمة وليس نتائجها لأنّ أوضاع الناس أضحت ضاغطة جداً ولم يعد من شيء يثنيهم عن التحرك الاحتجاجي، ولم يعد يجدي معهم لا الاستدعاءات ولا التوقيفات ولا حتى السجن”.
ولأنّ حالة الانفصام عن الواقع والتهرّب من المسؤولية لا تزال تتسيّد أداء الحكومة إلى درجة لم يتوان معها رئيس الحكومة أمس عن تحميل اللبنانيين أنفسهم مسؤولية الأزمة وتوبيخهم بعبارة قالها في مجلس الوزراء واعتبر فيها أنّ “الشعوب في دول أخرى تعرضت عملتها الوطنية لضغوط أمام الدولار باعت الدولارات لتحمي عملتها الوطنية ولتؤكّد التزامها الوطني بينما ما يحصل في لبنان هو العكس”، تبدو الأزمة في ظل الذهنية الحاكمة متجهة نحو مزيد من الآفاق المسدودة تحت وطأة ارتفاع مستوى التوتر المالي بين الحكومة والمجلس النيابي، حيث الانطباع السائد في أروقة ساحة النجمة، وفق ما نقلت مصادر نيابية لـ”نداء الوطن”، يعتبر أنّ “الحكومة صارت في موت سريري ولا أمل يُرتجى منها، فلا التعديل الوزاري يفيد ولا الترقيع” يفيد، واستبدالها لا يزال مرهوناً بجهوزية البديل، وبالتالي لم يعد أمام المجلس سوى محاولة إقناع حكومة دياب “بالنزول عن الشجرة” لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في الوقت الضائع من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي”.
وتلفت المصادر النيابية في هذا المجال إلى أنّ “صندوق النقد قالها بوضوح إنه لن يقدم على إبرام أي برنامج إنقاذي مع لبنان من دون تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، وعليه فإنّ على الحكومة أن تدرك أنّ الصندوق مستعد ليتحاور مع أي لجنة تعتمدها ومع أي أرقام تقرّها وليس عليها أن تبقى أسيرة هاجس تكبير حجم الخسائر لإرضاء صندوق النقد لأنه يفضّل الخسائر الكبيرة ليستحصل مقابل قروضه على ضمانات أكبر”. وشددت المصادر على أنّ “لجنة المال والموازنة لا تتبنى أرقاماً محددة إنما هي تعمل على تقريب المسافات بين الأطراف المعنية”، كاشفةً من هذا المنطلق أنّ رئيس اللجنة النائب ابراهيم كنعان “سيعرض على الحكومة خلال مؤتمره الصحافي في مجلس النواب اليوم أربعة سيناريوات كمخارج للحلول المتاحة في ما يتعلق بالخطة المالية وحسابات الخسائر”.
وكانت بوادر التضعضع الحكومي قد بدت علاماتها جلية أمس خلال جلسة مجلس الوزراء التي عقدت برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون في قصر بعبدا، حيث خيمت أجواء مشحونة ومشادات كلامية كادت أن تصل إلى حد الاصطدام بين محورين حكوميين، ذلك المحسوب على الرئاستين الأولى والثالثة والآخر المنتمي إلى الرئاسة الثانية على خلفية ملفي التدقيق المالي واستقالة مدير عام المالية آلان بيفاني. وتنقل مصادر مطلعة على أجواء جلسة بعبدا لـ”نداء الوطن” أنّ وزير المالية غازي وزني أبلغ مجلس الوزراء صراحةً بأنّ الفريق السياسي الذي ينتمي إليه (عين التينة) يرفض التعاقد مع شركة “كرول” لإجراء التدقيق الحسابي ربطاً بمعطيات تشير إلى أنّ هذه الشركة لها ارتباطات إسرائيلية، متصدياً صراحةً لرغبة رئيسي الجمهورية والحكومة بانضمام “كرول” إلى شركتي “أوليفر وايمن” و”KPMJ” في عملية التدقيق في حسابات مصرف لبنان، الأمر الذي فاقم حدة التوتر بين الجانبين لا سيما وأنّ موقف وزني بدا بمثابة رسالة حازمة إلى الحكومة لا رجعة فيها من رئيس المجلس النيابي نبيه بري بالتنسيق مع “حزب الله” في ظل ما ظهر من اصطفاف واضح إلى جانب وزني من جانب وزيري الحزب عماد حب الله وعباس مرتضى.
وقرر مجلس الوزراء تعليق البت باستقالة مدير عام وزارة المالية عقب التوتر الذي ساد بين وزني والفريق الوزاري العوني بعدما لمس وزير المالية محاولات لرفض طلب استقالة بيفاني بذريعة أنها ستؤثر سلباً على عملية التفاوض مع صندوق النقد، فأعرب الوزير في المقابل عن إصراره على وجوب قبول استقالة بيفاني في مجلس الوزراء على قاعدة “إما هو أو أنا” في الوزارة.