الحكومة في وضع لا تحسد عليه. الضغوط الخارجية والتدخلات السياسية تحاصرها وتقضي على ما تبقى لديها من قدرات ومصداقية. الحكومة التي فشلت في استعادة وحيازة الثقة الشعبية (والدولية)، تبدو وكأنها فقدت الثقة بنفسها، بالطريقة التي تدير بها الأزمة وبقدرتها على اجتراح الحلول.. الحكومة المطالبة بإصلاحات مالية وإدارية، وأيضا بإصلاحات سياسية تختصر في الابتعاد عن سياسة المحاور الإقليمية، تراوح مكانها وتدور في حلقة مفرغة وتنشأ فيها «محاور وزارية» موزعة بين الرئاسات الثلاث.. الحكومة التي شغلها «خلاف الأرقام» خلال عملية التفاوض مع صندوق النقد الدولي، خلافات «رقمية تقنية»، تشغلها حاليا خلافات سياسية على نحو ما كشفته جلسة مجلس الوزراء أمس التي كانت جلسة ساخنة متوترة، شهدت أكثر من «اشتباك كلامي» حول أكثر من ملف:
1 ـ فجّر موضوع التدقيق المالي في حسابات مصرف لبنان خلافا واضحا، واستحوذ على معظم الجلسة، حيث سجل جدل بشأنه بعد رفض وزير المال غازي وزني، الذي يمثل الرئيس نبيه بري في الحكومة توقيع العقد مع الشركة المكلفة بالتدقيق، وربط رفضه لهذا الأمر بإمكانية تسريب المعلومات إلى جهات معادية، مشيرا إلى أنه أبلغ الشركة بالتراجع من دون العودة إلى مجلس الوزراء، ولاقى هذا الأمر إعتراض بعض الوزراء من باب أن الحكومة كانت قد ناقشت هذا الأمر في عدة جلسات واتخذت قرارا بالتدقيق، مطالبين بتنفيذ قرارات المجلس ومنهم وزيرتا العدل والمهجرين.
أصر رئيس الجمهورية ميشال عون على تنفيذ قرار مجلس الوزراء بالكامل، قائلا ان القرار المتخذ في مجلس الوزراء منذ 3 أشهر بالتدقيق المركز في حسابات مصرف لبنان لم يزل من دون تنفيذ. وسأل عن أسباب التأخير في توقيع العقود مع الشركات التي ستتولاه، مؤكدا ضرورة السير بها تنفيذا لقرار مجلس الوزراء الذي نص على تكليف مؤسسة دولية القيام بعملية تدقيق مركزة.
ولفت إلى أن التدقيق المركز من شأنه تبيان الأسباب الفعلية التي أدت بالوضعين المالي والنقدي إلى الحال الراهنة، إضافة إلى تبيان الأرقام الدقيقة لميزانية المصرف المركزي وحساب الربح والخسارة ومستوى الاحتياطي المتوافر بالعملات الأجنبية.
الوزير وزني أبلغ المجلس صراحة بأن الفريق السياسي الذي ينتمي إليه يرفض التعاقد مع شركة «كرول» لإجراء التدقيق الحسابي ربطا بمعطيات تشير الى أن هذه الشركة لها ارتباطات إسرائيلية، وبدا موقفه بمثابة رسالة حازمة الى الحكومة لا رجعة فيها من بري بالتنسيق مع حزب الله، في ظل ما ظهر من اصطفاف واضح الى جانب وزني من جانب وزيري الحزب عماد حب الله وعباس مرتضى.
وقد ساند حب الله بشدة موقف وزير المال، مشيرا الى معلومات مؤكدة أن هذه الشركة لها ولديها ارتباط وثيقة بإسرائيل، ومحذرا مجلس الوزراء من كشف البلد أمام إسرائيل، لأن هذا هو هدفها، وهي تسعى بشتى الوسائل للدخول الى المعلومات في لبنان، طالبا تأجيل البت بهذا الأمر لمزيد من الدرس والبحث والتحقق. فوافق رئيس الحكومة على هذا الأمر وطلب تأجيل البت الى يوم الخميس.
2 ـ طرح وزير المال موضوع استقالة مدير عام الوزارة آلان بيفاني للبت بها.. أظهرت المداولات أن الاستقالة ليست منتهية، وأن قبولها ليس واردا عند رئيس الجمهورية، في وقت تحدثت معلومات عن مساع قد تدفع بيفاني الى التراجع عن استقالته، ولو أن الأخير أعلن أنه ليس في هذا الصدد.. وفي وقت ظهر توجه في الجلسة المالية الى رد اعتبار غير معلن للمدير العام المستقيل من خلال إعادة التمسك بالخطة الاقتصادية للحكومة.. ولكن يبدو أن وزني متمسك بقبول استقالة بيفاني بعدما سعى جاهدا الى ثنيه عنها ولم يلق التجاوب.
3 ـ حتى في موضوع الخبز ورفع سعره، لم يكن الوزراء على موجة واحدة.. فقد اعترض عدد من الوزراء على إعلان وزير الاقتصاد راوول نعمة عن نيته رفع سعر ربطة الخبز. وعُلم أن وزير الداخلية والبلديات العميد محمد فهمي بعث رسالة نصية على هاتف نعمة حذر فيها من أن هذا القرار يشبه قرار وزير الاتصالات السابق محمد شقير برفع كلفة التخابر عبر «الواتسأب» وما رتبه من مفاعيل في الشارع.
لوحظ أن الموضوع الوحيد الذي لم يثر خلافات في وجهات النظر عند طرحه هو المتعلق بالعلاقة مع سورية، ولم يسمع وزير الزراعة عباس مرتضى أي اعتراض عندما أثار خلال الجلسة العلاقات مع سورية وطالب بعودتها الى طبيعتها ما يساهم في تسهيل كثير من الامور الاقتصادية، وخصوصا في مجال تصريف الإنتاج الزراعي من خلال خط الترانزيت، مذكرا أن سورية هي المتنفس الوحيد لإعادة إحياء القطاع الزراعي، ولا قيامة للزراعة من دون علاقات مميزة مع سورية.
ولكن الملاحظة الأبرز أن شبح الاستقالات خيم على جلسة الخلافات.. ليس فقط البحث في استقالة بيفاني، وإنما ترددت كلمة الاستقالة أكثر من مرة على لسان أكثر من وزير:
٭ عندما قرر مجلس الوزراء تعليق البت باستقالة مدير عام وزارة المالية عقب التوتر الذي ساد بين وزني والفريق الوزاري العوني، بعدما لمس وزير المالية محاولات لرفض طلب استقالة بيفاني بذريعة أنها ستؤثر سلبا على عملية التفاوض مع صندوق النقد، فأعرب الوزير في المقابل عن إصراره على وجوب قبول استقالة بيفاني في مجلس الوزراء، وقال حاسما «إذا رفضتم استقالته أستقيل أنا».
٭ عندما أعلنت وزيرة العدل ماري كلود نجم تحفظها على الأسباب التي تحدث عنها وزني بخصوص شركة التدقيق المحاسبي لاحتمال أن تكون لكل الشركات علاقة مع إسرائيل لكنها عادت وقالت: «ومع ذلك إذا كانت المشكلة مع هذه الشركة، فلم لا نرى شركة أخرى مشابهة ونستعين بها لهذا الغرض». وأضافت: «إذا ما عملنا الخطة الحكومية والتدقيق المالي فماذا نفعل إذا؟». ورغم حدة مداخلاتها وجردة الحساب التي قدمتها طمأنت نجم الى أنها ليست بوارد الاستقالة وقالت: «ما رح استقيل رح واجه»، وساندتها في ملاحظاتها وزيرة المهجرين غادة شريم التي طالبت باتخاذ «خطوات عملية وسريعة وإلا ما لزومنا؟».
طفت على سطح الحكومة اعتراضات صريحة من قبل وزراء داخل الحكومة: «هيك ما فينا نكمل»، في مقابل تمترس رئيس الحكومة حسان دياب خلف زجاج يقيه حتى الآن من ضربات الحلفاء والاخصام، مشددا على قدرة حكومته على مقاومة الضغوط وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الخطة الحكومية.
وبدا أن هناك احتمالا متزايدا لحصول استقالات من جانب أكثر من وزير، إذ إن استقالة بيفاني كاتم أسرار المالية العامة رسمت مسارا جديدا تبدو الحكومة الحالية غير جاهزة له وغير مؤهلة بتركيبتها وخلفيتها كي تتعايش معه.
كل هذه التطورات والتصدعات التي تعكس «اهتزازا سياسيا»، هو الأول من نوعه داخل الحكومة، تدفع الى التساؤل عن مصير الحكومة في ضوء معلومات تشير الى أن فكرة الاستقالة راودت الرئيس حسان دياب بعد أحداث يوم السبت 6/6، وأن حزب الله تدخل لديه مقنعا إياه بصرف النظر نهائيا عن فكرة الإستقالة وعدم التلويح بهذه الورقة رغم كل ما يشكو منه من ضغوط ومضايقات.
طرح دياب في تواصله مع الحزب الموقف من كل جوانبه مشيرا الى أنه يواجه ضغوطا قوية من كل الجهات، من الحلفاء أكثر من الخصوم، وأن لعبة الدولار تخنق الحكومة وقضت على مصداقيتها الشعبية، وأن المفاوضات مع صندوق النقد متعثرة والصندوق لم يعد واثقا بقدرة الحكومة على تنفيذ ما تعد به وعلى القيام بإصلاحات.
ولكل هذه الأسباب ما عاد قادرا على الاستمرار في رئاسته ويريد الاستقالة قبل أن تسقط حكومته في الشارع. جواب الحزب كان أنه ضد استقالة الحكومة، لا بل مع ضرورة استمرارها مهما كلف الأمر، وهذه الحكومة يدعمها الحزب بكل ما أوتي به من قوة حتى الانتخابات النيابية المقبلة عام 2022.. فإذا استقالت هذه الحكومة لا يمكن تشكيل حكومة جديدة، في حين ان البلاد في هذه المرحلة لا تحتمل حكومة تصريف أعمال.
بعد هذه التأكيدات والتطمينات من جانب حزب الله، استعاد دياب توازنه وصار يؤكد لزواره أنه لا يفكر إلا بإنقاذ لبنان، وهو اختار بنفسه هذا الخيار، واتخذ قراره، بعد أن رأى ما يجري في الشارع من تحرك شعبي يطالب بالتغيير، وهو استجاب للمطالب الشعبية. يقول الرئيس دياب ان الأسهل له الاستقالة، ولكنه لن يفعلها، ولن يهرب من مسؤولياته.
ولا ينفي رئيس الحكومة وجود تباينات بين الوزراء، وظهور خلافات حول آليات معينة، أو مواضيع مطروحة، إنما ليس لديه توجه للانسحاب من معركة تعافي لبنان من أزمته المالية والاقتصادية والمعيشية التي هي نتيجة تراكم من السنوات.
يقول حزب الله إن الحكومة باقية حتى الانتخابات النيابية اللبنانية (صيف 2022).. ولكن هذه مسافة زمنية وسياسية طويلة.. الأرجح أن الحكومة باقية في أحسن الأحوال حتى الانتخابات الأميركية الرئاسية، المحطة الحاسمة والمفصلية في الحسابات الدولية والإقليمية، والتي ستقرر وجهة ومصير العلاقة الأميركية ـ الإيرانية، وما إذا كانت ستنتقل من حال المواجهة الى حال المفاوضة؟!