في الوقت الذي يغذي فيه الفقر المتسارع مشاعر الغضب واليأس والخوف من انفجار اجتماعي، يبدو أن جهود النخبة الحاكمة في لبنان لإنقاذ البلاد من انهيار مالي بمساعدة صندوق النقد الدولي تسير في الاتجاه العكسي.
وفي لبنان الذي اشتهر وسط بلدان الشرق الأوسط بأنه سويسرا الشرق، أصبح الفقر الذي حل بالبلاد منذرا بعواقب وخيمة يتبدى في صور مواطنين يستجدون في الشوارع أو ينبشون القمامة بحثا عن شيء يصلح للأكل أو يقايضون أثاث بيوتهم بالطعام.
ويتفق العديد من المسؤولين اللبنانيين الحاليين والسابقين والدبلوماسيين والمسؤولين الدوليين وخبراء الاقتصاد والمحللين أن المحادثات مع صندوق النقد لانتشال لبنان من أزمته الاقتصادية تشرف على الانهيار. لكن الوقت بدأ ينفد.
وقال ناصر سعيدي وزير الاقتصاد السابق عن المحادثات مع صندوق النقد الدولي إنها ”بلغت طريقا مسدودا“.
وتقول أغلب المصادر التي اشترطت عدم الكشف عن هويتها إن الطبقة السياسية، التي يتكتل أفرادها وفق أسس طائفية وعائلية أبعد ما تكون عن الاتفاق على نهج مشترك، لا تزال تتشبث بمصالحها الخاصة بل أن الجدل بينها يصل إلى حد الاختلاف على ما إذا كان لبنان قد أفلس فعلا.
وقد استقال اثنان من أعضاء فريق التفاوض اللبناني خلال شهر واحد استنادا إلى ما وصفاه بمحاولات للتخفيف من خسائر مالية هائلة في خطة الحكومة.
وقال مسؤول كبير مطلع على المحادثات ”هم لا يتفاوضون على برنامج“ مع صندوق النقد الدولي. وأضاف ”لا يوجد توافق (لبناني) على التشخيص. لذا ما الذي يمكن أن يتفاوضوا عليه؟“
وبدأ النقد الأجنبي ينفد بسرعة من لبنان الذي يبلغ عدد سكانه ستة ملايين نسمة. وعمدت الدولة التي تشهد انهيارا في إيراداتها إلى طباعة النقد لصرف أجور العاملين فيها الذين يقدر عددهم بنحو 800 ألف موظف.
وقال دبلوماسي غربي ”ثمة خطر حقيقي أن يحدث انفجار“ مضيفا أن ثلث مليون شخص فقدوا وظائفهم منذ تشرين الأول الماضي عندما تفجرت احتجاجات على الطبقة السياسية وأدت إلى استقالة الحكومة.
خلاف على الأرقام والإصلاح
مع التخلص من القيود التي فرضتها السلطات لاحتواء فيروس كورونا عادت مشاعر الغضب التي فجرت الاحتجاجات في الخريف الماضي للظهور بل وازدادت مظاهر الغضب.
وأخيرا تولت الدفة حكومة جديدة في أوائل العام الجاري ورغم أنها وُصفت بأنها حكومة من التكنوقراط فقد كان جميع أعضائها من ترشيح أصحاب السلطة الحقيقية.
وهي تضم بعض التكنوقراط إلى جانب مرشحين حزبيين ويقول معارضون إن رئيس الوزراء حسان دياب أسير معروف من جاءوا به إلى السلطة وعلى رأسهم جماعة حزب الله وحلفاؤها المسيحيون وأبرزهم الرئيس ميشال عون وحركة أمل برئاسة نبيه بري رئيس مجلس النواب.
وقد نفى دياب مرارا أن حكومته تنحاز إلى أصحاب المصالح السياسية. ولم يرد مكتبه على استفسارات من رويترز.
وبلغ الأمر بلبنان حد الإفلاس ولن يتمكن من سداد ديونه الضخمة بالكامل وجانب كبير منها مستحق للبنك المركزي والبنوك المحلية. لكن لم يطرح أحد استراتيجية متفق عليها لتوزيع الخسائر بين المودعين وحملة الأسهم في البنوك وحملة السندات الأجانب والدولة.
والتحدي الأول هو القبول بحجم الخسائر. وقد أقر صندوق النقد الدولي أرقام الحكومة التي تشير إلى أن العجز يتجاوز 90 مليار دولار. غير أن البنوك والبنك المركزي وأعضاء في البرلمان يقولون إن الرقم الحقيقي نصف هذا الرقم. ويصف معارضون ذلك بأنه حيلة محاسبية قائمة على سعر صرف مشكوك فيه.
وقال رئيس الوزراء دياب في بيان يوم الثلثاء: ”ملتزمون بالخطة المالية وبأرقام الخسائر الواردة فيها وقد تجاوزنا ذلك ونبحث الآن في كيفية توزيع الخسائر بالتواصل مع حاكم المركزي والقطاع المصرفي ووزير المال حتى نجد السيناريو المناسب وليس هدفنا تركيع القطاع المصرفي أو مصرف لبنان ولن يدفع المودعون الثمن“.
وقالت لجنة برلمانية لتقصي الحقائق يوم الأربعاء إنها تقدر الخسائر الإجمالية في النظام المصرفي بما بين 60 تريليون و122 تريليون ليرة لبنانية. ويقع هذا النطاق بين ربع ونصف المبلغ الذي تعترف به الحكومة ويقبله صندوق النقد.
وقال رئيس اللجنة إبراهيم كنعان ”الفرق كبير“.
وأضاف ”هذه هي الخيارات. أتمنى على الحكومة انها تدرسها … وننطلق الى المرحلة التانية اللي هي مرحلة التفاوض بوفد موحد برؤية واحدة“.
وسيتعين أيضا تقليص كلفة مرتبات العاملين بالدولة ومعاشات التقاعد وهي كلفة باهظة. ويتفق الجميع تقريبا على أن شركة كهرباء لبنان تتصدر قائمة الإصلاح إذ أنها تخسر حوالي ملياري دولار سنويا.
كما أن البدء في التفاوض مع صندوق النقد يتطلب تنفيذ إصلاحات أساسية تجاهلتها الحكومة حتى الآن. ويجب أن تفرض سلطة تنظيمية سيطرتها على الجمارك التي تخضع الآن لإقطاعيات حزبية كما يجب إنشاء حساب موحد للمصروفات والإيرادات بوزارة المالية وتوحيد أسعار الصرف.
لا ارتقاء إلى مستوى الأزمة
فقدت الليرة اللبنانية 80 في المئة من قيمتها منذ تفجرت احتجاجات شعبية في تشرين الأول الماضي على النخبة التي تحكم البلاد على أسس طائفية.
وكانت العواقب الاجتماعية مفزعة. فالطبقة المتوسطة اللبنانية بدأت تغرق. وقد قدر البنك الدولي أن حوالي 48 في المئة من اللبنانيين كانوا يعيشون بنهاية 2019 تحت خط الفقر. وتضاعفت أسعار المواد الغذائية ودفعت البطالة كثيرين إلى اللجوء للجمعيات الخيرية وبنوك الطعام. غير أن الجوع قد ينتشر على نطاق واسع عندما تنفد الدولارات التي يستخدمها البنك المركزي في دعم أسعار الخبز والدواء والوقود وهو ما سيحدث عاجلا أو آجلا إذا لم يحصل لبنان على مساعدات خارجية.
ولعشرات السنين ظل المانحون الأجانب يقدمون العون منذ انتهاء الحرب الأهلية وعلى رأسهم فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا ودول عربية خليجية، لكنهم أصبحوا غير مستعدين لانتشال لبنان من أزمته ويطالبون بالإصلاح.
وإذا انسحب صندوق النقد الدولي فعلى بيروت ألا تتوقع أن تتقدم دول مما كانت تساعدها في السابق لإنقاذها.
ويقول الدبلوماسي الغربي ”إذا كان هذا الطريق (صندوق النقد) مغلقا فستغلق كل الطرق الأخرى. فهم بحاجة لتنفيذ إصلاحات حقيقية يمكن التحقق منها، كما يشترط الصندوق، حتى إذا لم تكن مثالية“.
ويضيف ”لن يتقدم بلد أوروبي أو عربي خليجي ولا أميركا بالطبع لإنقاذ لبنان. يجب على القيادات اللبنانية أن تستجمع إرادتها لإنقاذ بلادها“.