كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
ستبقى استقالة قاضي الامور المستعجلة في صور محمد مازح موضوع جدل على خلفيات سياسية، خارج اسوار القضاء ومفاهيمه. فقد خرجت بطي وجهيها القضائي بعد الديبلوماسي من التداول، بمعزل عن الاسباب التي قادت اليها في الشكل والتوقيت والمضمون، لتتحول مؤقتاً قضية رأي عام. ولذلك طُرح السؤال عمّا إذا كانت استقالته قدراً شاءه مستقبلاً له. وعليه، ما الذي يقود الى هذه القراءة؟
يُجمع قضاة حاليون وسابقون، على انّ ما انتهت اليه قضية القاضي محمد مازح كان طبيعياً ومنطقياً، لا يقبل كثيراً من الجدل القضائي، وان احتفظت القضية بوجوه متعددة قياساً على شكل التعاطي معها رفضاً او قبولاً، سواء وُجد من يوجّه التحيّة اليه او إدانته، في ظلّ صمت احتفظ به البعض، في انتظار النتائج التي يمكن ان تؤول اليه تطوراتها. فلا شيء يمنع من بقائها حيّة لبعض الوقت على خلفية اعتبارها خطوة يمكن الاستثمار فيها في السياسة، وخصوصاً انّها جاءت في توقيت حرج، احتدمت فيه المواجهة بين الولايات المتحدة الأميركية وايران من جهة، وتجلّت انعكاساتها المباشرة في لبنان من جهة أخرى، من خلال «الطحشة» الديبلوماسية الأميركية التي لا سابق لها، وردّة الفعل التي عبّر عنها الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله وإصراره على تحميلها مسؤولية الأزمة النقدية في لبنان والحصار المضروب عليه من جهات العالم الأربع، بعدما افتقد لبنان نصيراً له من الغرب والعرب.
وعليه، توقفت مراجع قانونية وسياسية امام التطورات الأخيرة، فقرأت في وجوهها المتعددة اكثر من رأي وسيناريو. فما شهدته الايام الثلاثة الفاصلة بين صدور قرار القاضي مازح في يوم عطلة رسمية بعد ظهر السبت الماضي، وحتى تقديم استقالته ظهر امس الاول الثلثاء، من احداث متلاحقة، اوحت بكثير مما يمكن قوله. فقراره بشقيه، الذي منع فيه السفيرة الأميركية من الإدلاء بأي تصريح، وحظره على وسائل الاعلام اللبنانية استقبالها لمدة سنة، خضع لكثير من الانتقادات من اهل البيت القضائي، وان شاطرهم سياسيون واعلاميون الرأي والموقف، فقد وُجد من يرحّب بجرأته الى حد اعتباره قاضياً شجاعاً ذهب بعيداً حيث لا يجرؤ الآخرون.
وبمعزل عن الجوانب القضائية والقانونية التي افرغت قرار مازح من مضمونه، قياساً على صلاحياته المكانية كقاضٍ للامور المستعجلة في منطقة بعيدة عن بيروت، فانّ لها وجوهاً اخرى يمكن التوقف عندها. فان اعتُبرت مقابلة السفيرة دوروتي شيا سبباً في اصدار قراره، لا يمكنه ان يتناولها، فقد جرت وقائعها التلفزيوينة عبر محطة «الحدث – العربية» التي تبث من خارج الأراضي اللبنانية. وان سعى الى ان يطاولها، فقد لجأ الى منع تكرارها، من خلال قراره منع وسائل الاعلام اللبنانية من استقبالها او بث مثيلاً لها لمدة سنة كاملة، وهو ما شكّل مساً بالحرّيات الاعلامية وقوانين مختلفة. وان برّر الخطوة باعتباره انّ مضمونها يشكّل تدخّلاً في الشؤون الداخلية في لبنان ومساً بالسلم الأهلي والحضّ على الفتنة، فإنّه لم يُصب، لمجرد تجاوبه مع مضمون الاستدعاء الذي بلغه بالوسائل الالكترونية، من جهة لم تقدّم كامل المستندات الخاصة بالإخبار، فلجأ الى وسائل التواصل للوقوف على مضمونها، قبل ان يبني قراره على ما توافر لديه من معطيات قادته الى ما اقترحه.
وبعيداً من النقاش في الجانب القضائي للقضية، ومنعاً للتداخل بين اي من المعطيات السياسية ومسلسل المواقف التي واكبت القضية بأشكالها المختلفة، وما يتصل بالقواعد القضائية التي تحكم عمل القضاء، فقد جاء موقف المدّعي العام التمييزي القاضي منيف عويدات، بعد ساعات قليلة على صدور القرار، وطلبه من رئيس هيئة التفتيش القضائي القاضي بركان سعد استدعاء مازح امام هيئة التفتيش القضائي، من خارج مضمون القرار، بل لاسباب اخرى تتعلق بخروجه عن مقتضيات قانون القضاء العدلي. وهو ما تحوّل لاحقاً اسلوب تحرّك قادته وزيرة العدل ماري كلود نجم ومجلس القضاء الأعلى، بناءً على ما قالت به المادة 95 من القانون.
وعليه، تجدر الإشارة الى مضمون هذه المادة معدّلة «بموجب قانون 389 /2001» والتي كان التحقيق معه سيجري على اساسها، وقالت ما حرفيته: « خارجاً عن كل ملاحقة تأديبية، لمجلس القضاء ان يقرّر في أي وقت عدم أهلية القاضي الأصيل بقرار معلّل يصدر بناء على إقتراح هيئة التفتيش القضائي، وبعد الإستماع الى القاضي المعني، وذلك بأكترية ثمانية من اعضائه». و»لا تقبل قرارات مجلس القضاء الأعلى في شأن اهلية المرشح للاشتراك في المباراة كقاضٍ متدرج أو أصيل أو في شان أهلية القاضي المتدرج أو الأصيل، والمتخذة استناداً على أحكام هذا المرسوم الإشتراعي، أي طريق من طرق المراجعة، بما فيه طلب الإبطال لسبب تجاوز حدّ السلطة».
ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل، يجدر التوقف عند تجاهل القاضي مازح ما تقول به اتفاقية فيينا الصادرة عام 1961، التي ترعى العلاقات الديبلوماسية بين الدول، وما تقول به القوانين والأعراف الأخرى، ودور وزارة الخارجية في مثل هذه المخالفات ان وجدت. وعليه، فقد لفتت المراجع القضائية الى مضمون ما انتهت اليه تغريدته على صفحته الخاصة عبر «تويتر»، لتناقضها ومضمون «قَسَم القاضي»، عندما انهاها بقوله «الحمدلله ربّ العالمين، وبالإذن من سيدي الإمام الحسين وسيدي علي الأكبر» بعدما عبّر عن لا مبالاته، «إذًا، لا أبالي إذا ما وقَّعت على العقوبة ام وقعت العقوبة عليّ».
وانتهت المراجع القضائية لتقول: «انّ ما جاء في هذه التغريدة أضاف مخالفة أخرى اكثر جسامة من تلك المرتكبة من قبل، ولم يُقدم عليها احد في تاريخ القضاء. وان كان هناك جدل، لربما حول خروجه عن مضمون المادة 95 من قانون القضاء العدلي، فإنّ طلبه الإذن كما قال: «من سيدي الامام الحسين» ونجله «سيدي علي الاكبر» دافع اكبر لقبول الاستقالة. فإشارته الى اي شعار لا ينصّ عليه قَسَمه يعني انّه مستعد ليترجم «حقه بإيمانه الديني» على احكامه القضائية، وهو خروج على ما يقتضيه بقاؤه في السلك، يُضاف اليها تعبيره عن إقتناع لا يمكن ترجمته على «قوس المحكمة»، فيتوقف الجدل حول ما حصل، واقتضى التصويب.