كتب حسام عيتاني في “الشرق الاوسط”:
قبيل الانهيار العام الذي يعيشه لبنان، كان النظام السياسي فيه قد بلغ مرحلة الطائفية العليا أو القصوى. وهو نظام افترض الداعون إليه والذين عملوا على ترسيخه قابليته للبقاء والازدهار في ظروف إقليمية متغيرة وداخلية محتقنة.
باشرت «الطائفية العليا» ظهورها مع نهاية حقبة الوصاية السورية التي كانت قادرة بوسائل الضغط والترهيب والإكراه على إدارة الخلافات بين الطوائف اللبنانية وعلى إبقائها تحت سقف تحدده سلطات دمشق للتوتر المسموح للصراعات الطائفية أن تصل إليه. بل أن تفتعل الأجهزة السورية خلافات وتباينات بين حلفائها لضمان سيطرتها على كل القوى الطائفية – السياسية التي انضوت تحت مظلة النفوذ السوري بين العامين 1990 تاريخ نهاية الحرب الأهلية، و2005 سنة الخروج السوري من لبنان في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.
المناخ الذي أنتجته انتخابات 2005 التشريعية الذي تكرست فيه «تسونامي» ميشال عون وتياره بين المسيحيين، ثم الحملة التي شنها «حزب الله» على حكومة فؤاد السنيورة بعد أسابيع من حرب يوليو (تموز) 2006 كتأكيد على تغيير الحرب ونتائجها التوازن السياسي الذي فرضه اغتيال الحريري والانسحاب السوري والمائل لغير مصلحة الحزب ومعسكره آنذاك، أخذ شكله المادي في اجتياح «حزب الله» والميليشيات الحليفة لبيروت الغربية في السابع من مايو (أيار) 2008 وإرغام الأطراف المختلفة على تبني اتفاق الدوحة الذي أقر عملياً تعديلات غير مكتوبة على اتفاق الطائف، وفتح الباب واسعاً أمام عودة المسيحيين بدعم من الثنائي الشيعي إلى مواقع القرار في الدولة.
جعل «التيار الوطني الحر» من شعار «استعادة حقوق المسيحيين» عنواناً لتصحيح الخلل الفعلي الذي طال الموقع المسيحي في تركيبة السلطة بسبب الوصاية السورية السابقة. لكنه ذهب بعيداً في المطالبة بالحقوق تلك إلى حد شكّل خرقاً للدستور وللطائف. وإذا كان لا خلاف على أن المسيحيين عموماً قد أسيئ تمثيلهم وانتقصت حقوقهم ضمن التقاسم لمناصب السلطة المعمول به في لبنان أثناء التطبيق السوري لمقررات الطائف، فإن الإصرار على تعميم التقاسم على جميع مستويات الوظيفة العامة وعلى انتزاع مواقع ومناصب كان يشغلها موظفون من طوائف أخرى، أضفى سمة انتقامية وكيدية على المطلب المسيحي المحق.
وبحسب الدستور الذي كرس عرفاً قديماً، يقتصر التوزيع الطائفي على مجلسي الوزراء والنواب ووظائف الفئة الأولى، إضافة إلى مراعاة التوزيع هذا في الأجهزة الأمنية والعسكرية، فتقسم الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين.
لكن نفوذ العونيين المتورم بفعل دعم «حزب الله» شجعهم على التمادي في التقاسم الطائفي وصولاً إلى فرض إجراءات غير قانونية من مثل تعليق العمل بنتائج امتحانات مجلس الخدمة المدنية التي يجب أن يخضع لها الساعون إلى العمل في القطاع العام
بل إن وظائف قليلة الخطر مثل حراس الأحراش اعترض التيار الوطني على عدم حصول مؤيديه على نصفها، بعدما تحول كل التمثيل المسيحي في القطاع العام إلى أنصار العونيين، في سياق الصراع على زعامة الطوائف المسيحية.
مهما يكن من أمر، لم تكن الجماعات السياسية – الطائفية الأخرى أكثر حرصاً على القطاع العام، فحشرت في المؤسسات التي تسيطر عليها الآلاف من الموظفين غير الضروريين الذين راحوا يشكلون عبئاً على الخزينة، ناهيك عن تقديمهم الولاء «لمرجعياتهم» الطائفية على الولاء للدولة بطبيعة الحال؛ ما أدى في نهاية المطاف إلى صبغ كل مؤسسة حكومية بصبغة الطائفة التي أدخلت أكبر عدد من أبنائها إليها. فمؤسسة الاتصالات «أوجيرو» للسنة، أما إدارة حصر التبغ «ريجي» فللشيعة… وهكذا دواليك.
عشية الأزمة الحالية كانت الطوائف قد أنجزت أو كادت توزيعها الوظائف العامة حتى المستويات الدنيا على بعضها ضمن عملية المحاصصة وتشارك المغانم ومكافأة الموالين. فانعدم هامش المناورة وإمكان تبديل الموظفين حسب الكفاءة، وتجمدت الدولة برمتها ضمن قوالب غير قابلة للإصلاح ما لم يجر هدم الهيكل على من فيه. ونشأت بذلك بنية شديدة التمحور حول التقاسم الطائفي، بحيث قُضي على كل أوجه الرقابة الداخلية ضمن المؤسسات، والخارجية التي يتعين على الهيئات التشريعية ممارسته.
وهذا الواقع، إضافة إلى تحميله الخزينة مصاريف ضخمة وغير مبررة، جعل من الدولة المصدر الأول لتمويل القوى السياسية الطائفية، نظراً إلى الشح الذي أصاب تدفق المال السياسي من الخارج لأسباب باتت معروفة. فتحولت الدولة إلى ممول للتيارات والأحزاب ولمافيات التوزيع والاستيراد المرتبطة بها سواء عبر مشاريع البنى التحتية أو الخدمات العامة أو الموظفين بمختلف أنواعهم.
وعند الأخذ في الاعتبار الفساد المتفشي في الإدارة معطوفاً على ضآلة الواردات وأساليب «هندسة» الأموال العامة لخدمة قطاعات كانت تقف على شفير الإفلاس على غرار المصارف، تتضح عندنا صورة اتفقت فيها القوى السياسية مع بعضها مستخدمة شعارات «التسوية الرئاسية» و«المصلحة الوطنية» و«حقوق الطائفة» و«أم الصبي» وما شابه، على نهب الدولة لإدامة تسلط رؤوس الجماعات الأهلية.
غني عن البيان أن هذه الآلية لا تختلف كثيراً عما يسمى «مخطط بونزي» الذي يُلخص بالأخذ من الذين تحت لإعطاء الذين فوق لينتهي المخطط إلى الإفلاس الشامل كما هو معروف. وجاء دفع التقاسم الطائفي إلى أقصاه ليبين لكل من في عينيه نظر استحالة المضي في هذا النوع من الشراكة القائمة على السرقة الموصوفة والعارية. بكلمات ثانية، أكلت «الطائفية العليا» نفسها بتجاهلها المنطق البسيط لإدارة الموارد الضئيلة والمجتمع المتنوع وضرورة الارتكاز على حد أدنى من العدالة الاجتماعية والعقلانية في توزيع الثروات الوطنية التي تبخرت كلها وبدأ اللبنانيون يكتشفون قلة حيلتهم أمام من سرقهم وأعينهم مفتوحة.