كتب جوني منير في “الجمهورية”:
النتائج التي أفضى اليها الاجتماع الدولي الرابع للمانحين الدوليين، تبعث على القلق وعلى استنتاج واضح، بأنّ مرحلة الضغوط مستمرة، لا بل هي الى تصاعد. صحيح انّ عنوان المؤتمر جاء على اساس دعم مستقبل سوريا والمنطقة، الّا انّ الواقع اللبناني مرتبط في شكل وثيق بكل تطورات المنطقة ولا سيما منها التطورات السورية والإيرانية. فالانهيار الكبير الذي يطاول الاقتصاد السوري مرتبط بقوة بالانهيار القاسي الذي يطاول الاقتصاد اللبناني. فهل نسينا أنّ لبنان تولّى دائماً وظيفة الرئة الاقتصادية التي تتنفس منها سوريا؟
في سوريا، سعي لدفع الرئيس بشار الاسد الى القبول بحل سياسي يلائم المشروع الغربي الموضوع تحت وطأة الفقر والجوع، وبعدما وصلت نسبة السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر الى 80 %، والمطلوب مفاوضات سياسية تعيد صوغ الدستور السوري، الى جانب خروج ايران عسكرياً من سوريا.
وفي المقابل، لوّح الاتحاد الاوروبي «بالجزرة» من بعيد، وتعهّد بتقديم مساعدات انسانية بقيمة 2,3 مليار يورو لعامي 2020 و2021 في اطار تشجيع النظام على الانخراط في المفاوضات. وجاء المؤتمر قبل يوم واحد من محادثات بين رؤساء روسيا وتركيا وايران، عبر تقنية الفيديو.
الواقع انّ عقوبات «قيصر» قد تدخل مرحلة متقدّمة لتصل في نهاية الامر بالوضع الى حافة الانهيار الكامل.
والوضع في لبنان يسير في شكل موازٍ لما هو حاصل في سوريا. فالمشهد الاقتصادي والمالي قاتم، لا بل شديد السواد. فلقد تراجعت قيمة العملة الوطنية الى اكثر من 80 % امام الدولار الاميركي، والكثير من المؤسسات التجارية والاقتصادية انهارت وافلست واقفلت ابوابها، ليبلغ عدد العاطلين من العمل وفق آخر الارقام نحو 550 الف شخص. وانقطاع التيار الكهربائي اصبح كبيراً، وسط فوضى في اسعار السلع الغذائية، وتوجّها بالامس رفع سعر الرغيف. في اختصار، الطبقة الوسطى تتلاشى، حيث اضحى جزء كبير منها تحت خطر الفقر. وبتفسير آخر، فإنّ استقرارالدول يقاس علمياً، بحجم ابناء الطبقة الوسطى. ومع التطور الجديد في لبنان، فهذا يعني انّ ابوابه باتت مفتوحة بقوة امام الاضطرابات واتساع نطاق السرقات والإخلال بالأمن.
صحيح أنّ المواجهات الواسعة، او ما دأب على ترويج البعض له حول عودة الحرب الاهلية، مسألة غير واقعية وغير مطروحة لا من قريب ولا من بعيد، لكن الفوضى الاهلية الحاصلة والمرشحة لأن تزداد، قد تشهد صدامات محدودة وربما سقوط ضحايا. والاسوأ، الوضع المعيشي الصعب لأفراد المؤسسة العسكرية، حيث وصل الامر لأن يكون الجيش اللبناني هو الجيش الوحيد في العالم المحروم من تناول اللحوم اثناء الخدمة، رغم أنّه يشكّل الضمان الوحيد لضبط الوضع الامني في الشارع. والواضح ايضاً، انّ الحكومة ستبقى بسبب الدعم الكامل لـ»حزب الله» لها. فلا الاستقالة ستحصل، ولا حتى إحداث تعديل وزاري فيها. فالمشكلة هي في عدم امكانية توافر حكومة بديلة، ولا حتى التوافق بين القوى السياسية على استبدال وزراء. وخلال الاسابيع الماضية، ظهر اقتراح حول ايجاد متنفس للأزمة الاقتصادية، من خلال التوجّه شرقاً، ولكن الى العراق هذه المرة. فالدولة العراقية هي دولة نفطية وحكومتها تشكّل تقاطعاً اميركياً – ايرانياً، ما يُعفي لبنان من الإحراجات والنزاعات الخارجية. وحصلت اجتماعات عبر تطبيق الـ zoom بين غرفتي التجارة اللبنانية والعراقية. لكن الامور لم تسلك طريقها المطلوب، بعدما تبيّن عدم وجود قرار سياسي عراقي مساعد.
فبالنسبة الى الاميركيين، هنالك مشكلتان اساسيتان على لبنان معالجتهما: الحدود اللبنانية – السورية، او بتعبير آخر الممر البري لـ»حزب الله» في اتجاه ايران، والحدود البرية والبحرية الجنوبية. وفيما سيتولّى «قانون قيصر» معالجة الحدود اللبنانية – السورية وعلى مراحل زمنية عدة، تستعد الامم المتحدة وبالتنسيق مع الولايات المتحدة الاميركية لمعالجة الحدود الجنوبية. وكانت الرسالة الاسرائيلية واضحة بالتنقيب عن الغاز في المنطقة البحرية المتنازع عليها مع لبنان.
أخيراً، وفي دراسة له، اشار السفير الاميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان، الى وجود ما يزيد من 10 آلاف جندي في قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان، مع موازنة تتجاوز الـ500 مليون دولار سنوياً. لكن فيلتمان وصف مهمة هذه القوات بأنّها عديمة الفعالية، في اطار الكشف عن تجاوزات «حزب الله»، مورداً في هذا الاطار اكتشاف اسرائيل للأنفاق التي حفرها الحزب.
لكن اهم ما اقترحه، هو إجراء تعديلات على تسليح قوات الطوارئ، بحيث يجري استبدال الآليات الثقيلة، التي يشتكي منها الجنوبيون بأنّها تدمّر البنية التحتية القائمة، بأخرى اخف وزناً وقادرة على التحرّك سريعاً داخل البلدات والقرى والاماكن السكنية، مع تمديد التفويض الحالي من دون تغيير، ولكن لفترة محددة تتمثل بستة اشهر على سبيل المثال.
والواضح انّ فيلتمان يمهّد لتعديل في مهمات قوات الطوارئ الدولية، واقعياً قبل ادراج ذلك بالنص، ووفق فترة زمنية معقولة، وفي موازاة اندفاع الديبلوماسية الاميركية في اعادة اطلاق مفاوضات حول الترسيمين البري والبحري. ولا حاجة للاستنتاج أنّ تحريك مسار المساعدات للاقتصاد اللبناني المترنح مرتبط بخيوط غير مرئية بما سيحصل من تطورات على كل جوانب الحدود البرية اللبنانية.
خلال الاشهر الماضية، وفي عزّ انشغال العالم بالتمدّد السريع لجائحة كورونا، كان لبنان ينصرف الى تطبيق خطة ناجحة لصدّ هجوم كورونا. لكن دولاً اخرى، من بينها اسرائيل، انصرفت لما هو اكثر. فلقد عمدت مؤسساتها الى وضع الدراسات حول التأثيرات التي ستحدثها جائحة كورونا على الدول العربية المحيطة بها اضافة الى ايران. ولا شك في انّ لبنان شكّل احد ابواب هذه الدراسات. وقد تحدث الصحافي الاميركي الشهير توماس فريدمان عن ذلك، في لقاء نظمته غرفة التجارة الاميركية في القاهرة، حيث قال، إنّ البيت الابيض تسوده فوضى عارمة وتشتت كبير، وبلغ الامر انّ ملف ايران ووجودها في اربع دول عربية بات يهمّ رئيس الوزراء الاسرائيلي اكثر من الرئيس الاميركي، وفق تعبير فريدمان. ولكن لا عجب ان بدا انّ الحزب الديموقراطي باشر في وضع التصور الاولي للفريق الذي سيتولّى حلقات الشرق الاوسط، وفي طليعتها الملف الايراني، بعد الخسائر الكارثية التي تعرّضت لها حملة الرئيس دونالد ترامب خلال الاشهر الثلاثة الاخيرة.
فالاستطلاعات تشير الى تآكل مستمر في شعبية ترامب، والى تقدّم جو بايدن عليه بفارق اكبر من الفارق الذي كانت سجلته هيلاري كلينتون على ترامب في الوقت نفسه منذ 4 سنوات.
فحتى ملف تراجع العلاقة الاميركية – الاوروبية دخل على الخط أخيراً، لينتزع كثيراً من الاميركيين من اصول اوروبية من خانة المؤيّدين لترامب.
لكن هذا يعني انّه سينبغي علينا الانتظار حتى الشتاء المقبل، مع تصاعد ضغوط ادارة ترامب على ايران. وهو ما يعني توقّع رفع واشنطن مستوى الضغوط الى الحد الاقصى لتقييد الإيرادات المالية لإيران ولخنقها اكثر داخل ايران وخارجها، بغية دفعها الى التفاوض على اتفاقية شاملة، يبدو ترامب في حاجة ماسة اليها الآن.