كتب عمّار نعمة في “اللواء”:
لم يذرف المواطن علي محمد الهق الدمع لدى شروعه في إطلاق النار على نفسه ليرديها شهيداً للفقر والآفة، قبل ظهر أمس في شارع الحمراء. اتخذ قراره بكل رباطة جأش نتيجة مآسيه التي اختصرها بقوله إنه «مش كافر بس الجوع كافر».
تمددت جثة محمد هامدة لساعات طويلة قرب مقهى «دانكن دوناتس» في الشارع الضاج دوماً بالحياة، بعد أن صبر الهق حياً من دونروح ومسؤولاً عن عائلة لا قوت لها ولا حتى كرامة في بلد يتنازع سياسيوه السلطة والمال. لم يسأل الجوع عن طائفة علي، ولا عن مذهب سامر حبلي من جدرا الذي شنق نفسه هو الآخر في سبيل حياة أخرى أمله أن تكون أكثر عدلاً بعيدا عن مأساتهم السابقة.
سيمر غياب الرجلين سريعا في بلد ينسى أو لعله يتناسى الشهداء، وسيُلقي المسؤولون عن خراب البلد طيلة عقود، الخطابات والكلام الأجوف مزايدة على اللبنانيين الذين باتوا يتلقون بلامبالاة وبكثير من السخط السجال الدائر حول تغيير حكومي أو تعديل وزاري. هم سئموا السياسيين بمختلف تلاوينهم وبات كل ما يهمهم اليوم يتمثل في كيفية مواجهة أعباء الأزمة الاجتماعية والاقتصادية المستفحلة وواقعهم المزري، ومواجهة متطلبات الحياة الكريمة في ظل الارتفاع الهائل في الأسعار الذي يمس أسس معيشته ومتطلبات الحياة.
فترة السماح فاقمت الأزمة
رغم أن غالبية الشرائح الشعبية لم تتوسم الكثير من الحكومة الحالية، إلا أنها تأملت منها أن تشكل نقلة عن الحكومات الماضية. لكن هذه الحكومة التي ارتدت لبوساً تكنوقراطيا مزيفاً سرعان ما كشف تحاصص المناصب بين السياسيين النقاب عن مكنونها.
وفي ظل بلد يغلي بالسخط، اختارت مجموعات الانتفاضة الشعبية في غالبيتها، إعطاء حكومة الرئيس حسان دياب فرصة، وهذا ما حصل عند غالبية الناشطين على الأرض، حتى شمل الرأي الجميع مع هبوب وباء «كورونا» الذي وفر فرصة إضافية للحكومة للعمل حتى انتهت فترة السماح لها من دون إنجازات تُذكر إذا ما استثنينا المجال الصحي الذي قارعته بنجاح.
لكن فترة السماح تلك فاقمت من سوء الوضع العام في ظل ارتفاع سعر صرف الليرة ومعه الأسعار التي بلغت مستويات قياسية.. و«الخير لقدام»! وقد دفع سوء الأمور بمجموعات المنتفضين الى العودة الى الشارع الذي سيشهد تزخيما للتحركات وتنوعا في وسائل الضغط لإسقاط الحكومة والإتيان بحكومة مستقلين تتماهى مع مطالب حركة 17 تشرين.
عودة الحريري مُستبعدة
بالتوازي مع الشارع، يتصاعد الضغط على دياب من قبل معارضيه السياسيين.
قبل فترة، حاول الرئيس سعد الحريري تشكيل جبهة معارضة فعالة في وجه الحكومة كما العهد، لكنه لم يلق حماسا من قبل ركنين رئيسيين في المعارضة هما زعيم «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط ورئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع. وقد حاول المتحمسون لهذه الجبهة استمالة الرئيس نبيه بري وزعيم «تيار المردة» سليمان فرنجية، لتشكيل تيار واسع ومتنوع طائفيا وحزبيا، لكن من دون جدوى.
اليوم، يكرر «المستقبليون» محاولاتهم، وهي محاولات تستهدف رئيس الجمهورية ميشال عون، ولو من دون إعلان، لعلم الحريري تماما بفيتو العهد عليه في السنتين المقبلتين المتبقيتين له من عهده، وهم شرعوا في اتصالات على خط المختارة ومعراب، من دون نتيجة حتى الآن، في ظل إعلان مستمر من قبل الحريري بأن لا نية له للعودة.
ثمة من يلفت النظر الى أن الحريري عبر إعلانه عن شروط للعودة فإنه بعث برسالة لاستعداده البحث في العودة التي قد تكون عبر شخصية يختارها بنفسه. لكن بغض النظر عن هوية البديل، فإن الحكومة تتخبط فعلا في أدائها نتيجة عوامل عدة، حسب متابعين لها.
الاستقطاب الوزاري
وقد جاءت الحكومة ثمرة غير مقررة وغير مخطط لها في لحظة سياسية هدفت الى حماية استقرار البلاد بعد أن خرج الحريري نتيجة قرار وقف المساعدة المالية عن لبنان، حسب هؤلاء.
لكن العلاقة بين ضلعين من أضلاعها الثلاثة، العهد وبري، و«حزب الله» ضلعهما الثالث، لم تكن مفيدة لانطلاقتها. فصراع النفوذ كان عميقا منذ تشكيلها بين الرئيس عون ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل من ناحية، وبري من ناحية ثانية، دفع الى حالة من الاستقطاب كادت تفجر الحكومة.
وتقوم وجهة النظر هذه على أن عوامل هامة وموضوعية ساهمت في هذا التعثر لم يكن دياب قد تحسب لها وتتعلق بحالة التجاذب داخل الحكومة وبالعلاقة مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي وقف معظم الطبقة السياسية الى جانبه في وجه العهد ودياب نفسه.
وكان لكل مسألة مثارة في الحكومة حالة الاستقطاب الخاصة بها تبعا لموقف كل جهة ولرؤيتها لمهمة الحكومة منذ تشكيلها. ذلك أن العهد يريد استلحاق ما فاته في مرحلة التسوية مع الحريري للإمساك بالكادر الإداري للدولة عبر التعيينات المالية الهامة والتشكيلات القضائية، وسيرفض عودة الحريري الذي سيقايضه على أية تعيينات مقبلة قد يشترك فيها أخصام باسيل المسيحيين مثل «القوات اللبنانية».
ولناحية بري فإنها حكومة منع الإنهيار، والإنتظار في مرحلة رمادية لا يريد خلالها إجراء تغييرات جذرية في بنية الدولة في ظل قلقه من توازن مفقود مع الكتلة الوزارية للعهد ولـ»التيار الحر».
وتتمثل رغبة «حزب الله» بالحفاظ على الحكومة وإنجاز ما يمكن إنجازه ودعم دياب، وقد أوفد قياديَين كبيرين إليه أمس الأول ليبلغه دعمه، قبل أن يخرج دياب في مواقف عالية النبرة في السراي الحكومي.
والواقع أن هذا الثلاثي يدعم بقاء دياب، ولكل أسبابه وظروفه، وهذا كان محور لقاء بري وباسيل في عين التينة. ويشير أحد المطلعين على اللقاء الى أن الاجتماع كان هدفه البحث في كيفية الحفاظ على الاستقرار السياسي والنقدي واستبعاد الملفات الخلافية ومنها موضوع التدقيق المالي على سبيل المثال، في مرحلة يراد للبلاد تجنب الأسوأ فيها.
من جهته، يسعى دياب الى ترسيخ نفسه نداً للطبقة الحاكمة، ويعلق أحد المقربين من دوائر الثلاثي الحكومي على أداء دياب قائلا إن الاخير يريد الندية والنجاح معاً وهو لن يستطيع ذلك، والأفضل أن يركز على العامل الثاني ويُعدل من الأول!
لا يبدو دياب في هذا الوارد، وفي ظل الرفض الغربي والعربي له، قام بخطوة تصعيدية عبر الانفتاح على الشرق والشروع في المحادثات مع أطرافه، برغم أن ذلك قد لا يعني قرارا نهائيا من أركان الحكومة بهذا الخيار الاستراتيجي، فقد تكون مناورة في مرحلة تقطيع للوقت قبل الانتخابات الاميركية بعد أقل من أربعة أشهر.
لذا، وفي ظل هذا التباين والتفاوت في الأولويات، وفي خضم فوضى في علاقة أركان المعارضة بين بعضهم البعض ناهيك عن ضبابية رغبتهم في إسقاط الحكومة والتساؤلات حول الفراغ المقبل من بعدها، يبدو دياب مستمرا على رأس الحكومة، أقله في المرحلة الحالية.
الضغط على سلامة
من غير المنتظر حدوث تعديلات جوهرية على الواقع السلبي المتفاقم في البلد، فالمحادثات مع «صندوق النقد الدولي» مُعلقة وهو يطلب تنظيم لبنان لنفسه شرط محادثات مُثمرة، وبالتالي فإن المساعدات الأخرى المنتظرة استنادا الى هذه المفاوضات ستكون اليوم مستبعدة في ظل رمادية المرحلة. ويدعو البعض، تمريرا لهذه المرحلة، الى العودة الى سلامة من جديد والضغط عليه لتفعيل مهمته وتطبيق خطته مهما كانت التداعيات بهدف ضبط تفلت سعر صرف الدولار والحؤول دون اضطراب اجتماعي وقلاقل شعبية، وإلا البحث عن بديل.
إذاً، هي فترة معقدة وشائكة، ومن أسف المواطن أنه سيكون الحلقة الأضعف والمتضرر الأكبر في ظل هذه المرحلة الرمادية والصعبة التي يقول متابعون للوضع الحكومي إنها ستطول.