كتب ألان سركيس في “نداء الوطن”:
تعجز السلطة السياسية الحاكمة عن معالجة الأوضاع الإقتصادية وتزيد الشرخ السياسي فتلجأ إلى وضع الفقراء في مواجهة بعضهم البعض بينما يرتاح الحكّام في قصورهم الفخمة.
قضية المواجهات التي تحصل في الشارع ليست قصّة عابرة، بل تُعبّر عن الأزمة الحقيقية التي يعيشها المواطن، وهنا تسقط كل محاولات الفصل بين الشعب والجيش ورفع الحواجز ونصب العداء، لأن قائد الجيش العماد جوزف عون يؤكّد مراراً وتكراراً أننا “لسنا جيش نظام بل إننا جيش الشعب والدولة ولسنا أداة للسلطة الحاكمة، بل إننا نحمي الناس والمؤسسات، وكل محاولات إيقاع الفتنة بين الجيش والشعب ستبوء بالفشل”.
ويقابل هذا الموقف المتقدّم لقائد الجيش منذ بداية الثورة، تمسّك رهيب من قِبل الثوّار وعلى رأسهم ثوّار جلّ الديب والزوق بمرجعية الدولة والجيش، وهم وعلى رغم العنف الذي يتعرضون له في مرات عدّة لا يزالون يهتفون “ما بدنا جيش بلبنان إلا الجيش اللبناني”، ويهلّلون لعناصره ويقدّمون لهم الورود لأنهم يعتبرون أنّ لا قيامة للدولة إذا لم يكن هناك جيش قوي واحد موحّد لا يقاسمه أحد السلطة.
ويُسلّط الضوء بقوة على الإشكالات التي تحصل في جلّ الديب من وقت إلى آخر، ويبرز إعتراض كبير وخصوصاً في الأوساط المسيحية التي تقول: “الجيش ليس قوياً إلاّ علينا”، في حين أنّ مناطق كثيرة تتظاهر ولا يتمّ التعرّض للمتظاهرين سواء كانوا ثواراً أو من فريق الثنائي الشيعي.
ووسط الإتهامات بأن قيادة الجيش تضع اللواء 11 المحسوب عملياً على الثنائي الشيعي في جلّ الديب وساحل كسروان عمداً كي يواجه الثوّار ومن ضمنهم مناصرو “القوات اللبنانية”، فإن هذا الأمر ليس دقيقاً لأن قائد اللواء 11 درزي وليس شيعياً، والضباط هم من كل الطوائف، ويوجد قسم منهم مسيحي ومن خلفيات “يمينية” وليست عونية، مع أن هذا التصنيف ممنوع في الجيش، كذلك فإن العناصر العسكرية ذات أغلبية سنية.
لكن ماذا يحصل في جلّ الديب ولماذا تظهر الصورة بهذا الشكل؟ أسئلة كثيرة تطرح وخصوصاً من المسيحيين من دون الوصول إلى أجوبة شافية.
لجل الديب أو الساحل الممتد من كسروان إلى المتن خصوصيّة، فعلى سبيل المثال، إن طرابلس أو عكار أو الجبل من لون سياسي وطائفي واحد، أما بالنسبة إلى ساحل المتن فالأمور مختلفة تماماً، كما أن منطقة جل الديب وإنطلياس والزوق شريان حيويّ في البلد لأنها المدخل الشرقي لبيروت وتتمركز فيها أكبر المؤسسات وشلّها يعني شلّ البلد.
أما النقطة الثانية والأهم فهي تحريك نار الفتنة المسيحية – المسيحية، حيث يوجد فريقان، الأول هو “القوات” و”الكتائب” ومجموعات من الثوار، أما الفريق الثاني فهو “التيار الوطني الحرّ”، ووسط الإحتقان على الساحة المسيحية، فإن الجيش يرى أنه في أي لحظة قد يحصل صدام مسلّح بين الطرفين مثلما حصل قبل أزمة “كورونا” ويؤدّي إلى ما لا تُحمد عقباه، لذلك فإن منع مثل هكذا إحتكاكات هو أولوية، وتجري قيادة الجيش إتصالات شبه يومية بقيادة “القوات” والكتائب و”التيار الوطني الحرّ” لتبريد الأجواء.
وفي السياق، فإنه نظراً إلى حساسية الوضع في جل الديب والزوق، فإن قائد الجيش يتابع التفاصيل ويطلب من الضباط والعناصر عدم التعرّض للمتظاهرين وحتى عدم الردّ على الشتائم التي يتعرضون لها لأن “الناس مخنوقة وبدها تعبّر”، لكن العماد جوزف عون وضع خطوطاً حمراً وهي عدم الإعتداء على الأملاك العامة والخاصة، عدم قطع الطرقات كي لا تحصل فتنة وصدامات متنقلة، وعدم القبول بالإعتداء على عناصر الجيش لأن الجيش لا يُهان على الطريق من قبل خارجين عن القانون يريدون الإساءة إليه وإلى المتظاهرين على حدّ سواء. وفي التقارير الأمنية، فإن المجموعات التي نزلت وسببت إشتباكاً مع الجيش في جلّ الديب هي مغايرة للمجموعات التي نزلت في السابق وحتى بعد الاشتباك، وبالتالي تُطرح علامات إستفهام عمّن يحركها، خصوصاً أنها ليست من الثوّار المعروفين وليست من الأحزاب المسيحية المعارضة، في حين أن الجيش يؤكّد تصدّيه لكل المخرّبين ويدافع عن المتظاهرين، والدليل أنّه في بداية التظاهرات في 17 تشرين تصدّى فوج المغاوير في الأشرفية لتظاهرة الموتوسيكلات التي خرجت من الضاحية كما أقفل مداخل الضاحية مراراً، وتدخّل في السعديات وكذلك في طرابلس، لكن الإعلام يُسلّط الضوء على جل الديب لأنها قريبة منه. وأمام مشاهد التكسير الأخيرة في محالّ وسط بيروت واتهام “حزب الله” بالقيام بالتخريب، كان التساؤل الكبير أين الجيش مما يحصل ولماذا لم يتدخّل؟ لكن الحقيقة تكشف السبب الحقيقي لعدم تدخّل الجيش.
وفي التفاصيل، فإنه منذ لحظة إندلاع الثورة حصل تقسيم للمناطق بين الأجهزة الأمنية لا تزال قيادة الجيش تُبدي عدم رضاها عنه، لأن التقسيم شكليّ وعندما تقع واقعة توجَّه السهام إلى المؤسسة العسكرية ويطلب الجميع مساعدة الجيش، وهذا التقسيم هو على الشكل الآتي: ساحة الشهداء ومحيط السراي في يد قوى الأمن الداخلي، الأمن العام يغطي الأشرفية حتى المطار، أمن الدولة ينتشر في محيط الصالومي والجيش في جل الديب وبقية المناطق على امتداد الوطن، وبالتالي فإن ما حصل في وسط بيروت هو من مهام قوى الأمن الداخلي ولا تقع المنطقة تحت صلاحية الجيش، وبالتالي كان يجب على القوى الأمنية قمع أعمال الشغب ووقف من يتعدّى على أملاك الناس.
لا شك أن الوضع صعب جداً وهناك بعض القوى تحاول إدخال الجيش في صدام مع أهله واللعب على وتر المناطق المسيحية لحرق إسم قائد الجيش الذي يؤكّد أنه يقف على مسافة واحدة من الجميع ويقوم بواجباته العسكرية الوطنية الصرفة، من دون أهداف سياسية لأن الوضع دقيق للغاية، فهو لا يقبل الإعتداء على أي متظاهر سلمي في كل لبنان، وبالتالي فإن تصويره أنه يعتدي على المسيحيين إفتراء، في حين أن هناك ماكينات تحاول إظهار قائد الجيش أنه يعتدي على المسيحيين وتستفيد من الشرخ الذي قد يحصل لتستغله في المعركة الرئاسية، وهذه الجهات باتت معروفة وليست من المعارضة خصوصاً أن قيادتي “القوات” و”الكتائب” والمجموعات الأخرى تؤكّد دعمها الجيش على رغم بعض التجاوزات التي تحصل وتنصرف قيادة الجيش إلى معالجتها، وبالتالي فإن محاولات خلق الفتنة تسقط مراراً لأن من يسعى إلى بناء الدولة يدعم الجيش.