كتبت جنى جبّور في “نداء الوطن”:
كُتب على اللبناني أن يعود في العام 2020، الى ما قبل اكتشاف الكهرباء ووصولها إلى سائر قرى وبلدات لبنان النائية في ستينات القرن الماضي، وذلك في حال استمرت أزمة شحّ المازوت بسبب تهريبه الى سوريا وتخزينه، أو لصعوبة تأمين العملة الصعبة للإستيراد، وهذا ما دفع بأصحاب المولّدات إلى التلويح بإطفاء مولداتهم. العتمة، والتصبب عرقاً في تموز، مشكلتان لكن الأسوأ منهما مصير بضائع المحلات التجارية، و”مونة” اللبنانيين في ثلاجاتهم!
“صارت الساعة 6″… تخمين الوقت من دون حتّى النظر الى عقارب الساعة، ظاهرة لبنانية، تميز بها المواطنون على مرّ سنوات نتيجة تردّي الخدمات العامة في لبنان وغياب الوجود الحقيقي لمؤسسات الدولة وأجهزتها العاملة. في السادسة تنقطع “الدولة” ويشتغل الـ”موتور” أو العكس. الّا أنّ حتّى هذا المشهد المضحك المبكي غاب عن الساحة اللبنانية في الأيام الأخيرة في مختلف المناطق اللبنانية التي باتت تتغذى بالطاقة لمدة 4 ساعات يومياً، فتتحمل المولدات مسؤولية تأمين التيار 20 ساعة، ما أدى الى تفاقم الازمة ولا سيما مع شح المازوت، فانطلق على الأثر “موسم” تقنين “المواتير” أيضاً، فترى من يطفئ مولّداته نهاراً أو ليلاً لساعات ومنهم من يفعلها ليلاً ونهاراً في أوقات غير منتظمة. ولعلّ الخوف من العتمة، الشاملة، تحول الى حديث الساعة بين اللبنانيين، خصوصاً بعد أن رفع أصحاب المولّدات الصوت وسط عدم تمكنهم من إيجاد مادة المازوت التي إن توفّرت في السوق السوداء فبكميات محدودة، وسعر مرتفع. وقد أرسل بعضهم رسائل صوتية تناشد، لا بل ترجو، المواطنين الكرام التقنين في الإستهلاك كي يستمروا بتأمين الخدمة.
عتمة شاملة هذا الاسبوع؟
رئيس تجمّع اصحاب المولدات في لبنان عبدو سعادة، حذّر من اطفاء المولدات اذا لم تتأمن مادة المازوت، مع مطلع هذا الاسبوع. ويقول: “خزاناتنا فارغة من المازوت، وأضخم مولد فيه بعد 1000 ليتر كحد أقصى، والباخرة المحملة التي وصلت الى منشآت الزهراني لم نستفد منها كأصحاب مولدات. فكيف يمكن أن نستمر؟”. مستطرداً: “نحن مستعدون لتأمين الكهرباء من خلال مولداتنا 24 ساعة في اليوم، شرط توفير المازوت لنا وتسليمه بالسعر الرسمي المحدد من قبل وزارة الطاقة أي 14 ألف ليرة مقابل المحافظة على التسعيرة نفسها. فمن المستحيل الاستمرار بشراء المازوت من السوق السوداء بـ 20 الى 24 ألف ليرة، وأي زيادة اليوم على فاتورة المولد هي شبه مستحيلة، فالمواطن غير قادر على تحمل اعباء اضافية في ظلّ الازمات المتتالية التي تعصف بالبلاد والعباد. كذلك، لا نطمح نحن الى زيادة ارباحنا، ولكننا ايضاً غير مستعدين لتكبد المزيد من الخسائر”.
يؤكد سعادة أنّ المولدات تلفظ أنفاسها الأخيرة، والعتمة بانتظارنا في حال عدم توافر الحلول القريبة، داعياً المعنيين إلى تحمل مسؤولياتهم رحمةً بالشعب، شاكراً “اللواء عباس ابراهيم، على تدخله بتفاصيل الملف في الأيام السابقة مجنباً لبنان العتمة”، وناشده “بخلق آلية شفافة لتسليم المازوت بالسعر الرسمي من المصافي او من الشركات الخاصة على أن يأخذ كل صاحب مولد حقه”، مبدياً استعداده “لتزويده بلائحة دقيقة بأسماء اصحاب المولدات، ومصروفهم في كل منطقة وفي كل محافظة”.
السبتية: سنطفئ مولداتنا
في جولة “نداء الوطن” على بعض المناطق تبين أن التقنين بدأ في السبتية الاسبوع الماضي من الساعة الثالثة حتّى الخامسة فجراً، ومن الـ12 ظهراً حتى الواحدة والنصف من بعد الظهر. الّا أنّ تدخل بلدية المنطقة وتأمينها المازوت لاصحاب المولدات، أوقف التقنين لايام عدّة، على ان يعاود في الايام المقبلة، مع انتهاء المخزون. نبيل سركيس، صاحب مولد في المنطقة المذكورة، يؤكد أنّ “لا قدرة لنا على الاستمرار بشراء صفيحة المازوت بأكثر من 6000 آلاف ليرة مقارنةً بالسعر الرسمي. وليس هذا فحسب، فقد تحول عملنا الى “خسارة بخسارة”، ازاء ارتفاع سعر صرف الدولار بشكل جنوني، وحاجتنا الى صيانة مولداتنا من خلال تغيير زيت و”فلاتر” ما يكلفنا حوالى 5 ملايين ليرة في كل مرّة”. وعن سؤال “ماذا ينتظر السبتية الاسبوع المقبل؟ يجيب: “مخزوني يكفيني حتّى الاربعاء كحد اقصى، واذا لم نجد الحلول اليوم، فلن أكتفي بالتقنين، وسأطفئ مولدي نهائياً. وهذا الاحتمال وارد في كل المناطق اللبنانية، وكنّا قد تحدثنا في ما بيننا كأصحاب مولدات متخذين هذا القرار، انطلاقاً من عدم قدرتنا على الاستمرار بهذا النحو”.
في ضبيه: العتمة مستبعدة
في ضبيه، يبدو الوضع مختلفاً، فالتقنين لم يبدأ بعد. فصاحب أحد المولدات في المنطقة، يعمل بطريقة مختلفة. هو لا يسعى إلى زيادة ربحه، ولا يعمل بخسارة، وباستطاعته الاستمرار حتّى الآن بتأمين الكهرباء الى أهله في المنطقة أكثر من 18 ساعة في اليوم. ويقول: “أنا راضٍ بأرباحي القليلة لضمان استمراريتي، على الرغم من تراجع قيمتها بنحو 90 في المئة عمّا كانت عليه سابقاً”. لا يخفي الأخير، مشكلة شح مادة المازوت وعدم توافرها الّا في السوق السوداء، مشيراً الى أنه “في حال استمر الوضع على ما هو عليه، فسنكون مجبرين على التقنين في ساعات الليل من الثانية الى الـ4 فجراً، ومن الـ12 ظهراً حتّى الواحدة والنصف من بعد الظهر”، مستبعداً “الوصول الى العتمة الشاملة في المنطقة”.
الضحية واحدة: الشعب اللبناني
مأساة وراء مأساة يعيشها المواطنون، ومهما كانت الأسباب الخفيّة والظاهرة لأزمة المازوت، فان الضحية واحدة. خسائر بالجملة يتكبد فيها أصحاب المحلات التجارية والمواطنون في بيوتهم على حد سواء، نتيجة تقنين الكهرباء وتهديدات أصحاب المولدات. فبعد أن هرع اللبنانيون لتخزين كمية من اللحوم والاجبان والخبز في ثلاجاتهم، خوفاً من الجوع، أتت أزمة الكهرباء والعتمة المرتقبة لتزيد من سوداوية الوضع، وقد يطيح انقطاع الكهرباء بـ”ستوك” المأكولات المثلجة. رامي، أب لـ3 أولاد، اشترى ثلاجة جديدة منذ شهرين لتخزين كيلوغرامات اللحمة فيها، ظنّاً منه أنّه تخطى مشكلة ارتفاع اسعارها او عدم توافرها عند اللحامين. وها هو اليوم يعيش حالاً من القلق الهستيري مع كل انقطاع في “الموتور” أو في الكهرباء.
ويقول: “صرفت جزءاً من مدخراتي كي لا يجوع اولادي، وكي لا يحرموا من اللحوم. وأعيش هاجساً نفسياً اليوم، خوفاً من ذوبان اللحمة “المفرزة”، ومن تعفن الخبز والاجبان.. بئس هكذا بلد وهكذا حكام”. وان كانت خسارة رامي، تقتصر على بعض المأكولات، فان خسائر المحلات التجارية لا تعد ولا تحصى. يتحدث رفيق صاحب “ميني ماركت” عن خسائر نفسية أكثر من المادية، قائلاً: “أعاني من مشاكل نفسية مع كل انقطاع في التيار الكهربائي، ولا سيما في هذا الحر الشديد، ناهيك عن براد البوظة، الذي لا اعرف كيف يشتريه الزبائن، فكل “قرن” عبارة عن حساء بارد نتيجة ذوبانه. أمّا اللبنة “المحمضة”، فهي موضوع آخر، وما عدت اضع في برادي أكثر من 8 علب في اليوم، للحد من خسارتي، ولا سيما أنّ الشركات لا تعيده”، لافتاً الى أنّ دكانه تحول الى “مدينة رعب” ولا اظن اني سأكمل فيه وافكر باغلاقه قريباً بعد تصريف بضاعتي”.
من دكان رفيق الى احد اكبر السوبرماركات في لبنان، الذي يعاني ايضاً من التغذية الكهربائية الضعيفة جدّاً، والذي يرى نفسه مضطراً للتزود بالمازوت، لتعبئة مولداته الخاصة. يقول أحد المدراء في السوبرماركت “من المستحيل ان نسمح بانقطاع الكهرباء، لانّ ذلك يؤثر على آلية وأنظمة عملنا، ناهيك عن براداتنا، وثلاجات التخزين التي تقدر بضاعتها بملايين الدولارات. من هنا، نجبر على شراء المازوت مهما ارتفع سعره في السوق السوداء، حفاظاً على ما نملكه”، مؤكداً أنّ “اسعار السلع لا تتأثر بكلفة المازوت الذي نشتريه، مشيراً الى أنّه “حتّى الآن نحن مستمرون، على أمل ألا يزيد الوضع صعوبةً، وأن تقرر الشركة الاغلاق في لبنان، كما يحصل مع سائر المحلات التجارية”.
عجل واحد لأربعة لحّامين
وإن كانت الدكاكين والسوبرماركت تعاني بهذا القدر، فوضع الملاحم ليس على أفضل حال. ففي ملحمة نبيل، لا يوجد سوى القليل القليل من اللحمة في براداته. نسأله اذا كان تقنين الكهرباء والخوف من توقف المولدات عن العمل، هو السبب… فيجيبنا بعصبية لافتة: “اذا انقطعت الكهرباء نهائياً… بسكّر”، مضيفاً “أصبحنا نعمل كل يوم بيومه، وبتنا نتشارك كلحامين العجل الواحد مع بعضنا البعض، فيتقاسم 4 لحامين “الدبحة”، خوفاً من التخزين لأكثر من يومين، والسبب ليس الكهرباء فحسب، بل مشاكل البلد المتنوعة. فمثلاً، نشتري العجل بـ 6 ملايين ليرة لبنانية، وعند بيعه نخسر مليون ليرة نتيجة سعر صرف الدولار. من هذا المنطلق، وأمام كل “القرف” الذي نعيشه، أفكر جدّياً بإغلاق ملحمتي في نهاية هذا الاسبوع، بدلاً من زيادة خسارتي، وسماع تذمر الزبائن المستمر واتهامنها بزيادة الاسعار عشوائياً”. ننتقل الى معمل لصناعة الشوكولا، الذي ينزف من الظروف الصعبة منذ اكثر من 6 أشهر، نتيجة ارتفاع أسعار السلع الاساسية التي يحتاجها للتصنيع، وجاء التقنين والتهديد، ليزيدا الطين بلّة. يقول صاحب المعمل “لم نعد نصنّع الشوكولا ونبيعه للمحلات كما جرت العادة، وأصبح عملنا اليوم يقتصر على الطلبيات المحدودة للاعراس مثلاً أو لمناسبة القربانة الاولى. ويؤثر انقطاع التيار الكهربائي على عملنا بنسبة مئة في المئة، فمن دون كهرباء “الدولة” أو “الاشتراك”، لا يمكننا أبداً تصنيع الشوكولا وتبريده والمحافظة عليه بالظروف المناسبة. في المقابل، شراء مولد خاص بنا يفوق قدراتنا الحالية، وبالتالي، نشترط على الزبون تسلم طلبيته فور الانتهاء منها، كي لا نتكبد فوق الخسارة، خسارة… وتبقى “الرزقة على االله”.