كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
يريد أركان السلطة أن يبعثوا برسالةٍ مفادها: «صدّقونا. سنلتزم الإصلاح». لكنهم في الواقع ما زالوا يناورون ويضلّلون الرأي العام والمجتمع الدولي بخطواتٍ تُكرِّس المحاصصة والفساد، ويتهرَّبون من المراقبة والمحاسبة. ربما يعتقدون أنّ المجتمع الدولي وصندوق النقد ما زالت تنطلي عليهما الخدعة.
يعيش أركان السلطة هاجساً واحداً، هذه الأيام: كيف لا «نهشِّل» صندوق النقد؟ ويعرف هؤلاء: إذا غضِب الأميركيون، فلا دعم من الصندوق. وإذا غضِب الصندوق، فلا دعم من فرنسا ولا السعودية ولا حتى الصين. وأما الانزواء تحت الدعم الإيراني وحده، مباشرة أو عبر العراق وسوريا، فسيُغضِب الآخرين جميعاً وعواقبُه مدمّرة.
لذلك، لا تزال حكومة الرئيس حسّان دياب تناور بوعود الإصلاح منذ 6 أشهر، مع أنّ الظروف الكارثية كانت تستدعي خطواتٍ طارئة خلال أيام أو أسابيع. ويَنظر خبراء صندوق النقد باستغراب إلى الخفّة في تعاطي أركان السلطة. فهم لم يُقْدِموا على أي خطوة إصلاحية، ولو صغيرة، على رغم الانهيارات الاقتصادية والمالية والنقدية.
الخبراء يقولون: هذا «التذاكي المحلي» لا ينطلي على المعنيين في المجتمع الدولي، أو على صندوق النقد الدولي الذي يمتلك أرقاماً ومعلومات وأفكاراً واضحة عن حقيقة المأزق المالي وعلاجه. وهو لذلك لا يُصدِّق، لا خطة الحكومة ولا أرقام المصرف المركزي ولا جمعية المصارف، وإن كان يعتبر أن الأولى أقرب إلى نظرته.
عندما وصل الصندوق إلى حافة الإعلان عن فشل المفاوضات، سارعت القوى المعنية إلى محاولة تنفيس الضغط. فقد أظهرت الحكومة أمس أنّها تجاوبت جزئياً مع مطالب الإصلاح في ملف الكهرباء، إذ أقرَّت صيغة تعيينات في مجلس الإدارة، من دون المسّ برئيسه، ووعدت بإقرار الهيئة الناظمة قريباً.
ولكن، على الأرجح، سينتظر صندوق النقد والجهات المانحة الأخرى ليتأكّد مما إذا كان الفريق الجديد سيتمكن من العمل متحرّراً من الالتزامات السياسية ومراعياً للشفافية، فلا تتكرَّر أخطاء التعيينات السابقة التي كان يتمّ تجهيزها مسبقاً، وفقاً لمنطق التقاسم والمحسوبية.
وأما القنبلة الدخانية الثانية فهي تتعلق بملف التدقيق الجنائي في مصرف لبنان. فبعد اسم Kroll، أُحيل على الأجهزة الأمنية اسم شركة FTI، للتثبت مما إذا كانت لها ارتباطات بإسرائيل، قبل اعتمادها لتولّي مهمّة التدقيق.
ولكن، في الحقيقة، عندما خرج اسم FTI إلى الضوء، نتيجة الاجتماعات الأخيرة بين النافذين في السلطة، أبدى العديد من الخبراء استغرابهم لسببين:
– الأول هو أنّ لهذه الشركة الأميركية، كما Kroll، تواصلاً معلناً مع إسرائيل، لا يحتاج كشفه إلى التحقيق. وبمعزل عمّا إذا كان فريقها الإداري يتعاون حالياً مع إسرائيل أو يتعاطف معها أم لا، فإنّ للشركة فرعاً عاملاً هناك. وفي نظرة سريعة إلى موقعها الالكتروني، يتبيَّن أنّ عنوانه هو: تل أبيب، شارع ييغال ألون، الرقم 114.
– السبب الثاني ربما يثير الاستغراب أكثر من الأول، ويصل إلى حدّ اعتباره فضيحة، فهو أنّ شركة FTI Consulting معروفة في العالم بكونها شركة استشارية وليست شركة تدقيق. وهي تُعرِّف عن نفسها، بوصفها «شركة استشارات تجارية متخصِّصة بمساعدة المنظمات على إدارة التغيير والحدّ من المخاطر وحلّ النزاعات المالية والقانونية والتشغيلية والسياسية والتنظيمية والمتعلقة بالسمعة والمعاملات». وهي «تساعد على إدارة المخاطر الاستباقية، ودعم الاستجابة السريعة للأحداث غير المتوقعة والبيئات الديناميكية».
أكثر من ذلك، جاء في الموقع الرسمي حرفياً، وبشكل متكرِّر على الصفحات كافة، أنّ FTI Consulting، Inc، بما في ذلك الشركات التابعة لها، هي شركة استشارية وليست شركة مرخَّصاً لها للمحاسبة العامة أو كمؤسسة قانونية. وتشير الشركة إلى أنّها تُقدّم خدمات استشارية إلى الشركات في مجال تَجنُّب الفساد أو المحاسبة العدلية، لكنها لا تعلن أنّها هي نفسها متخصِّصة بأداء مهمَّات التدقيق.
إذاً، السؤال هو: لماذا لم يتمّ التوافق بدلاً منها على شركة تدقيق جنائي خبيرة ومعروفة عالمياً في هذا المجال، وتوحي بالثقة؟ وهل كان المعنيون الذين توافقوا على اسم FTI يجهلون أنّها تتساوى مع Kroll بـ»شُبهة» العلاقة أو التواصل مع إسرائيل؟ وإذا كانوا يعرفون، فلماذا لم يتمّ الإبقاء على Kroll إذاً؟ فعلى الأقلّ هي شركة تدقيق، لا يرقى الشكّ إلى خبرتها ومهارتها عالمياً.
هنا يسأل أحد الخبراء: هل يكون المطلوب أن تقوم FTI بعملية التدقيق المطلوبة، وتُصدر تقريرَها بعد عناءٍ ووقتٍ طويل، فيأتي مَن يَطعن فيه بذريعتين: أولاً، تحت عنوان أنّ الشركة ربما تكون قد نسَّقت تقريرها مع الإسرائيليين للإساءة إلى لبنان ووضعه المالي. وثانياً، لأنّها أعدّت تقريراً من خارج اختصاصها (الاستشاري)، وتالياً هي لا تمتلك الاختصاص والخبرة اللازمة لإنجازه؟
أي، هل مطلوبٌ إضاعة الوقت بتدقيقٍ سرعان ما يتعرَّض للطعن والسقوط، وفي الوقت الذي تستغرقه كل هذه العمليات، يكون في لبنان «مَن ضرب ضرب ومَن هَرب هَرب»؟ وهل يمكن استبعاد هذه الظنون عندما يكون واضحاً سلوك أركان السلطة، ومنذ سنوات، أي الهرب من الإصلاح والمحاسبة؟
يقول العالمون، إنّ أركان السلطة في لبنان سيقاومون صندوق النقد والإصلاحات حتى الرمق الأخير. ولكنهم، من حيث لا يدرون، يسقطون تدريجاً: لقد سقطت تركيبة 2016 بعد 17 تشرين مباشرة، والحكومة التي جاءت بعد ذلك لم تجرؤ على التنكُّر للإصلاح. وقد ذهبت قوى السلطة إلى صندوق النقد رغم الاعتراضات السابقة، وأقرّت خطة إنقاذ مالي، وهي تهتمّ بتقديم خطوات إصلاحية.
وصحيح أنّ كل المحاولات تنطوي على المخادعة، لكن الانهيار المتسارع سيدفع المخادعين أنفسهم، ورغماً عنهم، إلى الانخراط بشكل انزلاقي في مسار الإصلاح. والأشهر المقبلة ستكشف المستور وتضع الجميع أمام الحقائق المرّة.