كتبت راجانا حمية في “الاخبار”:
فعلتها نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة بإعلانها الامتناع عن استقبال المرضى، باستثناء الحالات التي تهدّد الحياة. أعطت النقابة مهلة زمنية مستحيلة، وهي تعرف تماماً أن المعركة غير متكافئة في بلدٍ يقف على حافة الانهيار. ولئن كانت بعض المطالب محقة، والدولة تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية فيها، إلا أن إقفال أبواب المستشفيات في وجه الناس أخطر من أي خسارة أخرى.
ثلاثة أسابيع فقط منحتها نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة للدولة قبل أن تقفل أبوابها في وجه المرضى. هذه المرة، القرار حاسم ولا عودة عنه. هذا ما أكّده سليمان هارون، نقيب أصحاب المستشفيات. ثلاثة أسابيع وبعدها… سيأتي الطوفان الذي رسمت النقابة بعض ملامحه، في مؤتمرها الصحافي أمس. إذ أعلنت انتهاء عمل الكثير من الأقسام في المستشفيات، وتوجّه هذه الأخيرة إلى حصر عملها باستقبال الحالات الطارئة وتلك التي تهدد حياة المرضى. لكنها تبقى مرحلة فاصلة بين قرار الدولة و«الدعسة» التالية التي ستخطوها المستشفيات، مع إعلانها أن عدم التجاوب مع المطالب ستكون نتيجته «الإقفال شبه التام لمعظم الأقسام، باستثناء قسمي غسيل الكلى والعلاج الكيميائي». وهي المرحلة الأخيرة من الانتحار الجماعي الذي قررته النقابة، منفردة، وخصوصاً أنها تعرف أن هذه المهلة غير كافية لابتداع الحلول في بلاد تقف على حافة الانهيار. كما تدرك النقابة أن المعركة غير متكافئة في وجه دولة عاجزة، ومرضى جلّهم من الفقراء، باتوا اليوم أكثر فقراً مع الأزمة الاقتصادية المالية الخانقة. هكذا، تخوض النقابة معركة ضد الناس. وإذا كانت بعض المطالب محقة، إلا أن إقفال أبواب المستشفيات «أمر خطير»، على ما يقول رئيس لجنة الصحة النيابية عاصم عراجي.
مع ذلك، لا خيار آخر أمام النقابة، بحسب هارون، لأن «الوصول إلى الانهيار الكامل بات قاب قوسين أو أدنى» لسببين أساسيين، أولهما مزمن ويتعلق بالمستحقات المالية للمستشفيات العالقة في ذمة الدولة، وثانيهما طارئ فرضته الأزمة المالية والزيادة الجنونية في كلفة الاستشفاء. في أول الأسباب، يسرد هارون القصة الطويلة للمستحقات التي تتكرر كل عام. هذه المرة، الأزمة بدأت عام 2018 مع بعض الجهات الضامنة (الطبابة العسكرية وقوى الأمن الداخلي)، ولا تنتهي مع الأشهر الستة الأولى من العام الجاري. وفيما أعلنت وزارة الصحة العامة إرسال ملف بالمستحقات العائدة للمستشفيات عما تبقى عن العام الماضي، إضافة إلى ملف سلفة مالية عن الأشهر الثلاثة الأولى من السنة الجارية، لم تتلقّ المستشفيات بعد خبراً من وزارة المال عن تلك الدفعات. وحتى في حال قررت الوزارة الصرف «فلن يكون ذلك قبل شهرٍ من الآن»، يقول هارون. أما بالنسبة إلى ما في ذمة الطبابة العسكرية وقوى الأمن الداخلي، فـ«لم نقبض أي قرش منذ 5 أشهرٍ، كما أن المستحقات عن جزء من العامين 2018 و2019 لم تُدفع بعد». أضف إلى ذلك أن النقابة «تبلّغت من الطرفين عدم إمكان إرسال ملف المستحقات قبل شهرين أو ثلاثة، ما يعني أنه قبل 4 أشهرٍ لا يمكن الحديث عن أي شيء».
في ذمة الدولة ما يفوق الألفي مليار للمستشفيات، إضافة الى ما في ذمة الطبابتين العسكريتين اللتين لم تعلن أرقامهما بعد. وقد طرحت أخيراً فكرة تقسيط تلك الدفعات كما يفعل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عبر سلف شهرية، إلا أنه لا جواب رسمياً على ذلك بعد. لذلك، «ما بقى فينا نحمل»، يحسم هارون، واصفاً المرحلة اليوم بأنها «الأخطر، لكون المستحقات فقدت 80% من قيمتها كونها بالليرة اللبنانية» في وقت زادت فيه كلفة الاستشفاء وما يلحقها من زيادات على المستلزمات والمعدات الطبية. المعركة، هنا، خاسرة، لناحية الفارق بين الكلفة التشغيلية والتعرفات المعمول بها حالياً، وخصوصاً أن «الجهات الضامنة الرسمية تضع فواتيرها بالليرة على أساس سعر صرف دولار بـ 1500 ليرة، في حين يلامس الدولار اليوم الـ 10.000 آلاف ليرة». من هنا، كانت المطالبة بتعديل تلك التعرفات، وإن كانت مصادر وزارة الصحة تؤكّد أن من المستحيل اليوم الإقدام على مثل هذه الخطوة، لتفادي ظلم المواطنين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة.
ثمة سبب آخر يرهق النقابة يتعلق بلائحة الأسعار التي تعتمدها الجهات الضامنة للمستلزمات الطبية. فهذه اللائحة لم تتغيّر منذ نحو 20 عاماً، ما «يجعل الفارق شاسعاً بين سعر المستلزم في اللائحة وسعره اليوم». وما يزيد الأمر سوءاً أزمة الدولار، وقرار مصرف لبنان في ما يتعلق باستيراد المستلزمات الطبية الذي ترك هامشاً مقداره 15% «علينا شراؤها بسعر صرف السوق». ومن هنا، يقدّر هارون الفارق في سعر المستلزم «بين السعر الرسمي المحدد من قبل الجهات الضامنة والوكيل بحوالى 80%». وهذه أزمة مستجدّة بدأت تظهر «عوارضها» مع أزمة الدولار. إذ إن المستشفيات تتلقى مستحقاتها وبدل خدمات الاستشفاء بالليرة، فيما «التزاماتها كلها بالدولار». نتيجة لذلك، زادت «الكلفة التشغيلية للمستشفيات بنسبة لا تقل عن 50% عما كانت عليه قبل الأزمة الحالية، ما أدى الى خلل كبير في توازنها المالي»، في وقت انخفض فيه عدد المرضى بالنسبة نفسها (إلى ما دون النصف) بسبب زيادة الأسعار وأزمة كورونا.
يبقى أن البلد كله ممسوس بهذه المعادلة غير المتكافئة: الالتزامات بالدولار والرواتب والمستحقات بالليرة. هذه ليست أزمة قطاع واحد، وهي تالياً «أكبر من الوزارة»، على ما تقول مصادر وزارة الصحة. لذلك، ليس المطلوب اليوم قراراً كالذي أعلنت عنه النقابة لأنه قرار «ما بينحمل»، وإنما «الصبر كرمى للناس في هذه المرحلة». وهو الأمر نفسه الذي كان يحبّذ عراجي أن تتخذه النقابة: «التروّي كي تستطيع لجنة الصحة النيابية التوصل إلى حلولٍ مرضية». بحسب عراجي، كان الأولى منح اللجنة هامشاً من الوقت «لنكمل ما بدأناه في سبيل تخفيف الضرر عن القطاع الصحي».
لا حلول ستأتي دفعة واحدة، بل محاولات لتخفيف حدّة الأزمة. ولذلك، «تقوم وزارة الصحة بما تقدر عليه». من ذلك، مثلاً، «إقرار مجلس النواب سلفة 450 مليار ليرة لتهدئة أوضاع المستشفيات»، والعمل على إعداد دراسة لشراء الوزارة معدات ومستلزمات طبية تسلّمها للمستشفيات بسعرٍ مدعوم. هذه الخطوة، بحسب المصادر، «تحتاج إلى شهرين تقريباً كي تدخل حيز التنفيذ، بما يعفي المستشفيات من جشع المستوردين».
وفي السياق نفسه، تعقد لجنة الصحة النيابية اجتماعاً طارئاً غداً، استكمالاً لاجتماعين سابقين، من أجل صياغة التوصيات النهائية تمهيداً لنقلها إلى الجهات المعنية، ولا سيما رئاسة مجلس الوزراء ومصرف لبنان ووزارة الصحة. ومن بين التوصيات المطروحة، الطلب إلى مصرف لبنان تحرير المستلزمات الطبية من القرار 530 (85% سعر صرف رسمي و15% سعر الصرف السوق)، على أن يُضبط في المقابل تهريب الأدوية أو احتكارها لبيعها على أساس سعر صرف السوق السوداء، وتحصيل مستحقات المستشفيات مع ترشيد الأخيرة لإنفاقها، والتواصل مع إدارة الجمارك لضبط تهريب الأدوية تحديداً.