كتبت سهام رزق الله في “الجمهورية”:
يتميّز التضخم بزيادة مستمرة في متوسط أسعار السلع والخدمات، بغض النظر عن الاختلافات القطاعية. وهو على الرغم من انعكاساته السلبية على المستهلكين المحليين ذوي الدخل الثابت بالعملة الوطنية، إلّا أنّ ارتباطه بتدهور سعر الصرف يجعله يحمل أحياناً تأثيرات مخالفة بالنسبة للمصدّرين أو المغتربين أو المستثمرين والسياح الأجانب والمغتربين القادمين الى البلاد.. الأمر الذي يستدعي قراءة متعدّدة الأوجه لأسبابه ونتائجه لمختلف الأفرقاء المعنيين، وفق خصوصية البلاد موضع الأبحاث، وأوضاع كل من هو على علاقة بها. ولكن قبل النظر في عواقب التضخم في لبنان، دعونا ننظر أولاً في أسبابه، بعد أن تخطّى عام 2020 حدود 510 في المئة تفوقاً بذلك على تجربة العام 1987 التي اتسمت بذروة معدل 487 في المئة ، فيما لم يُعرف بعد الاتجاه المستقبلي للأسعار …
في لبنان تعتمد إدارة الإحصاء المركزي طريقة علمية واضحة ودقيقة لاحتساب مؤشر الأسعار، ترتكز وفق منشوراتها، على تصور مجموعة محدّدة من السلع والخدمات النموذجية التي تستهلكها الأُسر المعيشية، تُسمّى «سلّة الاستهلاك»، التي يتم شراؤها في كل شهر، ومن شهر الى شهر يختلف المبلغ المدفوع لشراء هذه السلة، بحسب تغيّر اسعار الأصناف التي تضمّها، ومهمة الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك، هو قياس التغيّر النسبي في المبلغ المدفوع لشراء هذه السلة.
علماً انّ اصدار الرقم القياسي لاسعار الاستهلاك هو شهري. وبالطبع لا يمكن متابعة اسعار كل السلع الموجودة على الاراضي اللبنانية والمستهلكة من قبل الأُسر المعيشية. لذلك، تتابع ادارة الاحصاء المركزي اسعار عينة من السلع والخدمات الاكثر استهلاكاً من الأُسر المعيشية اللبنانية، وهي حوالى 11500 سلعة وخدمة. وتشمل سلّة الاستهلاك عدداً من الاصناف، يتسمّ بتمثيله للاستهلاك الفعلي للأُسر المعيشية بفئاتها الاقتصادية والاجتماعية، وتوزّعها على مختلف المناطق اللبنانية.
ويتم ّتصنيف الاستهلاك الفردي، وفق الهدف من الاستهلاك، بين المواد الغذائية والمشروبات غير الروحية، المشروبات الروحية والتبغ والتنباك، الالبسة والأحذية، المسكن والماء والكهرباء والمحروقات، الاثاث والتجهيزات المنزلية والصيانة المستمرة للمنزل، الصحة، الاستجمام والتسلية والثقافة، التعليم، المطاعم والفنادق، سلع وخدمات متفرقة…
وتتعدّد الأسباب والخلفيات الاقتصادية للتضخّم الحاد، فيما تبقى النتيجة واحدة، وهي فقدان القدرة الشرائية لذوي الدخل المحدود بالعملة الوطنية، أي تقلّص مكونات السلّة الاستهلاكية التي يسمح بشرائها المبلغ نفسه..
ومن أبرز أسباب التضخّم، هو ما يُعرف بالتضخم النقدي، الذي يتحدّث عن زيادة العرض النقدي من قِبل البنك المركزي، الذي يُصدر الأوراق النقدية. وغالباً ما يُعتبر هذا النوع من التضخم مرتبطًا بسوء الإدارة من قِبل الدولة، والتي غالبًا ما تستخدم تقنية «المطبعة» لتقليل مقدار الدين العام القابل للسداد.
وقد شهد لبنان في الثمانينات تجربة التضخم المفرط وتدهور قيمة العملة الوطنية حيث سار تطور التضخم طوال سنوات الحرب في لبنان جنباً إلى جنب مع تطور الكتلة النقدية خاصة في بداية الثمانينيات مع زيادة عجز الميزانية السنوية ثم مع انهيار سعر صرف العملة الوطنية منذ عام 1984.
ولاحظ العديد من خبراء الاقتصاد، ارتباط هذه المتغيّرات وتطور التضخم، مع التركيز على أنّ السبب الرئيسي للتضخم في لبنان، ولا سيما خلال سنوات الحرب، كان ذا طابع نقدي، دون استنتاج أنّه السبب الوحيد للتضخم في لبنان. ونلاحظ، على سبيل المثال، أنّه قبل ظهور عجز الموازنة في نهاية السبعينيات وتطوره في سنوات الحرب في لبنان، ارتفع متوسط معدل التضخم السنوي بنسبة 20%، ثم تظهّر تضخم مزمن طوال سنوات الحرب وحتى بداية سنوات ما بعد الحرب (حتى عام 1992) خلال فترة التضخم المرتفع في عام 1987 (معدل التضخم 487%).
كما من الضروري التمييز بين المنطق التقليدي، الذي يفترض وجود عملة واحدة فقط، يتمّ تداولها في كل اقتصاد، والمنطق الذي يأخذ في الاعتبار وجود دولرة في الاقتصاد المعني، وبالتالي وجود عملة أجنبية مستخدمة الى جانب العملة الوطنية، وتعرّض السوق لما يُعرف بـ «التضخّم المستورد» inflation importee في حال تدهور قيمة العملة الوطنية ازاء العملة الاجنبية، وبالتالي الاضطرار الى تثبيت العملة الوطنية ازاءها، في ظلّ توازي استخدام العملتين..
أيضاً يمكن أن يتغذّى ارتفاع الأسعار من خلال تكاليف التضخّم المستورد، حيث يعود التضخم إلى ارتفاع أسعار المواد الخام المستوردة، وهو ما ينعكس في سعر بيع المنتج النهائي. فلنأخذ على سبيل المثال إطارًا مصنوعًا من البترول. إذا ارتفع سعر النفط، فإنّ الشركة المصنّعة للإطارات سترتفع لديها تكاليف التصنيع وستضطر إلى تمرير هذه الزيادة عند بيع إطاراتها، ويمكن للشركة بالتأكيد استيعاب بعض الزيادة في أسعار المواد الخام، ولكن إذا كانت الزيادة أيضًا كبيرة، فمن الصعب للغاية الحفاظ على أسعار البيع.
من هنا نفهم مسار التضخّم المرتبط اليوم بموجة تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي، خصوصاً في بلد يعتمد بـ 80% من إستهلاكه على الاستيراد، أن يشهد اليوم قمة التضخم التي تفوق 510% وفق ما نشره البروفسور «ستيف هانك»، على صفحته، ليفوق بذلك معدل الـ487% عام 1987 دون معرفة منحى تطوّره، وما إذا كان قد بلغ ذروته أم بعد. (راجع الرسم البياني)
كما أنّ التضخم يمكن أن ينتج من فائض الطلب بالنسبة للعرض، فيرتبط التضخّم بعدم التوازن بين العرض والطلب لمنتج معين. إذ كلما كان الطلب أكبر من العرض ترتفع الأسعار تلقائيًا حتى تصل إلى نقطة التعادل. وإذا كان العرض غير قادر على تلبية الطلب، فإنّ ندرة المنتج تعني استمرار الأسعار في الارتفاع، مما يخلق التضخم.
كما يمكن أن يأتي التضخم عن طريق ربط سعر منتجات معينة بأسعار المنتجات الوسيطة المستخدمة في تصنيعها. ونأخذ مثالنا للإطارات مرة أخرى لتسهيل المقارنة. إذا كان سعر بيع الإطارات سيرتفع، من المرجح أيضًا أن يرتفع سعر بيع السيارة الجديدة، نظرًا لأنّ الإطارات تشكّل جزءًا لا يتجزأ من تكاليف السيارة.
وغالباً ما يتصل التضخم بانعدام الثقة بالعملة الوطنية، فالأموال التي نستخدمها كل يوم لا تقلّ قيمة عن الثقة التي نضعها فيها. وفي الأسواق المالية، يؤدي انعدام الثقة في العملة إلى انخفاض سعر صرفها.
كذلك يمكن أن ينتج التضخم من السياسة النقدية. إذ يؤدي تخفيض البنك المركزي لأسعار الفائدة الرئيسية إلى زيادة التضخم تلقائيًا.
ومن أبرز عواقب التضخم، ما يستتبعها لاحقاً من مطالبة بزيادة الأجور، لاستعادة البعض من مستوى المعيشة، يتمّ ربط الأجور بمستويات الأسعار. لذا، إذا كان التضخم 3%، فسوف ترتفع الأجور مع الوقت أيضًا نظريًا بنسبة 3% لإعادة التوازن الى الإقتصاد.
والواقع، أنّ حساب مؤشر الأسعار (الذي يتمّ ربط الأجور به) غالبًا ما يكون مشوهًا. فعند حساب هذا المؤشر، يتمّ التركيز على المواد الاستهلاكية التي تُعتبر ضرورية، أكثر من غيرها من الإنفاق. على سبيل المثال، يمثل الإيجار، الذي يُعدّ أحد نفقات الأسرة الرئيسية، جزءًا صغيرًا من هذا المؤشر. خلافاً لذلك، تلعب التغيّرات في أسعار المواد الغذائية دورًا رئيسيًا. لذا هناك فرق بين التضخم الحقيقي والمتوقّع. وإذا ارتفعت الأجور بشكل أسرع من الأسعار، فإنّ الأُسر ستشهد تحسناً في قدرتها الشرائية. وبالمقابل، إذا ارتفعت الأجور بسرعة أقل، تتأثر الأُسر بفقدان جزء كبير من القوة الشرائية.
أما بالنسبة الى الديون، فتأثير تدهور العملة عليها يختلف بين تخفيف عبء الديون عن المدينين، أي من سبق واستدانوا بالعملة الوطنية، التي تفقد قيمتها، وزيادة القدرة الشرائية بالنسبة للسياح والمستثمرين الأجانب والمغتربين، الذين يتقاضون مداخيل بالعملات الأجنبية. وعلى العكس، تتدهور أوضاع من استدانوا بالعملة الأجنبية، وخصوصاً إن كان مردودهم بالعملة الوطنية، فيتحمّلون كلفة فرق العملة، فيما لا يتأثّر من استدانوا بالعملة الأجنبية إن كان مدخولهم بهذه العملة نفسها أو بعملة أجنبية أخرى مستقرة. ومن ناحية أخرى، يخسر الدائنون، الذين من المقرّر أن يتمّ ردّ المبالغ المستحقة لهم بعملة لا قيمة لها عمّا كانت عليه، عند تنفيذ معاملة القرض، بغض النظر عن أساس قيمة القرض. كذلك تتأثر الأُسر التي لديها قروض بأسعار فائدة متغيّرة برفع سعر الفائدة المركزي، الذي يؤثر على مجمل الفوائد الدائنة والمدينة.
يبقى القول، إنّ ارتفاع الأسعار يغذي نفسه، إذ هو يتطلّب ضخ المزيد من السيولة، لتعويض تراجع القدرة الشرائية، والطلب على المزيد من المال، وخصوصاً لتمويل القطاع العام ورواتبه ومصاريفه، إذا كان التضخّم يتزامن مع تراجع إيرادات الدولة، أو كانت بالأساس في حالة عجز مالي، أو أنّ ماليتها أساس أسباب تدهور الأوضاع النقدية، كما هي الحال في لبنان. الإشكالية الأساسية ليست في معدّل التضخّم نفسه، ولا حتى بمختلف إنعكاساته، إنما التحدّي في تحقيق معدّل نمو يفوق معدّل التضخّم، حتى لا يصبح معدّل الفائدة الفعلي تحت الصفر!.. فأين نحن من ذلك في ظل توقّع معدّل نمو تحت الصفر؟!