كتبت باتريسيا جلاد في صحيفة “نداء الوطن”:
نحن اليوم في حافلة انهيار “فلتانة” مكابحها، تنحدر بسرعة في المهوار من دون سائق، “تلفّ” المنعطفات الخطرة الشبيهة بـ”كواع عاريا”. وضياع الوقت في تنفيذ آلية التوقف وإصلاح العطل يزيد من مخاطر الوصول الى القعر وحصول الإنفجار الكبير”. بهذا التوصيف المبسّط لخّص النائب السابق لحاكم مصرف لبنان محمد البعاصيري وضع البلاد اليوم خلال حواره مع “نداء الوطن”، فالحكومة كما قال، “تأخّرت كثيراً كثيراً، وكان يجدر لها منذ تشكيلها أن تبقي اجتماعاتها مفتوحة “ليلاً ونهاراً” لكبح الإنهيار”. فماذا عرض البعاصيري من حلول لتلافي الإنفجار، وما سبب تعليق صندوق النقد لمفاوضاته مع لبنان؟
سبعة أيام مرّت على “تعليق” صندوق النقد إجتماعاته التمهيدية مع لبنان لبدء المفاوضات رسمياً واتخاذ قرار دعم لبنان أم لا. أيام تمرّ ونراوح مكاننا بل نتجّه أكثر فأكثر نحو مزيد من التأزّم، الفقر والجوع. فهل من الممكن معاودة تلك المفاوضات واستعادة الأمل بتحسّن الأوضاع؟
يعتبر البعاصيري أن “الذهاب باتجاه صندوق النقد الدولي كان خياراً صائباً، إلا أن الخطوة كانت تستلزم إنجاز أمور أساسية، أهمها إشراك الحكومة جميع الجهات والمؤسسات والقطاعات التي لها علاقة بالأزمة الإقتصادية والمالية والنقدية، وبخاصةً مصرف لبنان والمصارف في اجتماعاته قبل الخروج بخطة التعافي الإقتصادي التي يفترض أن تحاكي الأزمة وتجترح الحلول بما فيها الأرقام. فلا يجوز تقدير قيمة الخسائر من دون أخذ رأي القطاع المصرفي وتحميلها في ما بعد لمصرف لبنان، مع تحفّظي على أداء بعض المصارف”.
ويرى أنه “لا يجوز أن يتوقف مصير 5 ملايين لبناني على خطّة أنجزها 4 أو 10 مستشارين، من دون التشكيك طبعاً بقدراتهم”. ويضيف: “ما حصل أن الوفد اللبناني توجّه للتفاوض مع صندوق النقد بأرقام متباينة، فاضطرت اللجان النيابية للتدخل وإيجاد حل للخلاف، ما أفقد الوفد المفاوض المصداقية، ولغاية الساعة لم أسمع أنه تمّ التوافق على رقم موحّد للعودة الى المفاوضات”.
توحيد الأرقام
وحول تأييد “الصندوق” لخطّة الحكومة والأرقام الواردة فيها، يوضح أن “المشكلة ليست بقيمة الخسائر بل بتفاوت الأرقام، الفريق اللبناني المفاوض يجب أن يكون صوتاً واحداً وقلباً واحداً وعقلاً واحداً وبالتالي على الأرقام أن تكون موحّدة وليست متناقضة ومختلفة. هذا التباين أدى الى ضرب مصداقية الوفد اللبناني أمام وفد “الصندوق” بغض النظر عما اذا كانت الأرقام صحيحة أو لا.
فالخلاف، برأي البعاصيري، سببه “تضمُّن الخطة الإقتصادية بنداً ينادي بتصفير الخسائر وفي الوقت نفسه يحدّد حجم الخسائر بناء على مقاربة معينة. فتفترض الخطة إجراء “هيركات” على سندات خزينة بالليرة اللبنانية والتي يحملها مصرف لبنان والمصارف بنسب معينة، مغايرة لأرقام جمعية المصارف”.
من هنا يجد البعاصيري أن “خطة الحكومة لم تكن شاملة لكل الأفرقاء المعنيين، ولا يرى أي انعكاس لها على مستقبل لبنان، وأستنتج منها أنه قد يكون هناك “هيركات” على المودعين الأمر الذي أعتبره خطيراً جداً”.
وحول اعتبار المستشارين أن الخطة لم تلحظ هيركات بل Bail in (ويعني السماح للمصرف باقتطاع جزء من وديعة المودع مع التعهد بإعادته في أجَل غير مسمى)، يقول: إذا كان الـbail in خياراً للمودع فليس لدي مشكلة في ذلك ولكن اذا ُفرِض على المودع فأنا ضدّه وأعتبره غير مقبول. لأن من شأن هذا التدبير ضرب أي مصداقية وأي ثقة متبقية للمودع اللبناني المقيم والمغترب بشكل نهائي. فالمغتربون لن يرسلوا أي دولار الى لبنان بعد اليوم اذا فُرض الـ”هيركات” ونقطة على السطر، انتهى لبنان”.
ويشدّد البعاصيري على أنه “خلال هذا الوقت يجدر بالحكومة عدم انتظار نتائج اجتماعات صندوق النقد، بل عليها المبادرة الى الإصلاحات وأولها ملف الكهرباء، كل ذلك خارج دائرة المحاصصة والإكباب على العمل ليلاً ونهاراً لإنقاذ البلد. صحيح أن المعضلات كانت نتيجة تراكمات سنوات طويلة من الفساد والهدر، ولكن وقف الإنهيار ممكن”.
الحكومة والإصلاحات
وحول إمكانية الحكومة الحالية الشروع بالإصلاحات أو التنحّي، يلخّص رأيه بأربع كلمات: “الحكومة لم تكن قدّ المسؤولية”، ويتابع: “المكتوب يُقرأ من عنوانه. من هنا لم تقم الحكومة بأي انجاز منذ 6 أشهر لغاية اليوم، وبالتالي لم تُحدث أي صدمة إيجابية، علماً أن الشرط الأول لاستعادة الثقة هو الإتيان بحكومة جديدة تحظى بمصداقية اللبنانيين بالدرجة الأولى وثقة المجتمعين الدولي والعربي بالدرجة الثانية”.
وأكّد أنه “على كل القوى السياسية اليوم مجتمعة واجب إيجاد الحلول، واستعادة الحكومة الثقة المفقودة وتحسين العلاقات مع دول المنطقة”. مشيراً الى أن “كل يوم يمرّ بعيداً عن الحلول والإصلاحات يعمّق الأزمة أكثر ويزيد الوضع سوءاً، فالدولار يتابع ارتفاعه والفقر والجوع يستشريان والبطالة تتفاقم، وظاهرة الإنتحارات تتزايد. فـ”الخارج” ممكن أن يساعدنا اذا ارتأى جدّية في المعالجة واقتصار عمل الحكومة فقط على الإنقاذ”.
وعن سبب عدم بدء الحكومة بالإصلاحات، يقول: سؤال يوجّه الى رئيس الحكومة؟
مصداقية وثقة
وفي ما يتعلّق بالحلول التي يقترحها، يعدّدها البعاصيري كما يلي:
– وجود حكومة لديها مصداقية، تحظى بثقة المجتمع اللبناني وبتأييد دولي عربي وخليجي.
– تعزيز العلاقات مع الأشقاء العرب والمجتمع الدولي، باعتبار أن أبرز الدول المانحة في مؤتمر “سيدر” على سبيل المثال، هي مؤسسات دولية مثل البنك الدولي والدول العربية وتحديداً الخليجية التي ساعدت لبنان على مدى عقود طويلة.
وذلك يترسّخ من خلال الشروع بالاصلاحات وأولها ملفّ الكهرباء عبر BOT اي (build operate transfer)، باعتبار أن نصف الدين العام الموجود حالياً له علاقة بالكهرباء والعجز السنوي يبلغ 2 مليار دولار يقابل ذلك انعدام في التغذية.
– أن يعتمد لبنان مبدأ الحياد الإيجابي وألا تكون لديه أي علاقة بمشاكل المنطقة.
– وجود شبكة أمان إجتماعية، نظراً الى تخطّي الفقر نسبة الـ50% وتوجّه البطالة صوب المليون، علماً أن لدى المؤسسات الدولية الإستعداد الكامل، لا سيما البنك الدولي، لدعم شبكة الأمان تلك بقيمة تتراوح بين 450 و 600 مليون دولار.
وفي هذا السياق، يتابع البعاصيري، “يتمّ توفير الضمان الصحّي لجميع اللبنانيين وتقديم مساعدة مادية بناء على دراسات يتمّ إعدادها، من خلال رواتب شهرية أو “كوبونات” تكون البديل عن دعم المواد الإستهلاكية، فترتفع أسعار تلك السلع ويتوقّف التهريب الى الخارج لا سيما الى سوريا وتركيا. وهذا الأمر معمول به في الولايات المتحدة من خلال ما يسمى بالـFood Stamps التي تُمنح للفقير الذي يحصل على حسومات عند الشراء. من هنا تشكّل تلك الوسيلة دعماً مباشراً للمستهلك ولكن تتطلب رقابة مشدّدة.
– ترسيخ إستقلالية القضاء.
– إستعادة الأموال المنهوبة بطريقة علمية وقضائية مع أنني على ثقة أنها “قصة طويلة”، وهناك صعوبة في استقدام الأموال بأكملها. إلا ان هذا التدبير سيكون بمثابة رسالة “قوية ” للذين لا يزالون يفكّرون في الإقدام على سرقة أموال الدولة.
– إعادة هيكلة ورسملة القطاع المصرفي. ويتمّ ذلك عبر إعداد لجنة الرقابة على المصارف دراسة عن وضع البنوك إفرادياً بناء على مواصفات معينة، الأمر الذي لا يستغرق الوقت الكثير. بعدها يقسّم مصرف لبنان بناء على توصية لجنة الرقابة البنوك الى جزءين: جزء قابل للحياة وآخر غير قابل للحياة.
الأوّل، نعدّ له برنامجاً ضمن مظلّة واحدة، فيبحث مع المساهمين حول إمكانية ضخّ أموال جديدة لإعادة رسملتها والوصول الى نسب معيّنة على مدى 5 سنوات، وليس سنة استناداً الى القانون، وذلك وفقاً لمقررات بازل 3، باعتبار أن الضرورات تبيح المحظورات ويمكن تعديل القوانين، خصوصاً وأن أموال المصارف اختفت وهي صفر أو سلبية.
أما المصارف غير القابلة للحياة أي غير القادرة على زيادة رأسمالها، عندها يجمعها مصرف لبنان تحت مظلّة واحدة تحمل تسمية BB أي Bad bank (مصارف سيئة). ما يعطي ثقة للمودعين وأملاً باسترجاع أموالهم كون مصرف لبنان هو المسؤول مباشرة عنها، فيصفّي موجودات كل منها خلال فترة زمنية معيّنة، ويسدّد منها أموال المودعين بعيداً عن الهيركات.
وفي ما يتعلق بعدد المصارف الذي يجب أن يسجله القطاع خصوصاً وأن وزير المال تحدّث عن تقليصها الى النصف، يوضح البعاصيري: “إن المعالجة المصرفية يجب أن تحدّد بعد تقسيمها الى جزءين وضمن معالجة شاملة مبنية على الثقة والإصلاحات الجذرية، إستناداً الى خطة واحدة مدروسة من الحكومة وغير إنتقائية.
في تلك الحالة، لا يمكن إجراء عمليات دمج أو شراء؟
حول ذلك يقول، اذا كانت هناك إمكانية من مصرف قابل للحياة، ضخّ أموال لشراء آخر، يمكن إتمام العملية رغم وجود صعوبة اليوم في توافر الأموال، أما الدمج فيمكن حصوله اذا تمّ التوافق إرادياً بين فريقين على إنجازه”.
تسديد الدين الداخلي
وبالنسبة الى معالجة الدين العام، يوضح أن الدولة هي المسؤولة عن الإستدانة وهدر الأموال، علماً أنها ليست مفلسة بل ثرية، ومشكلتها عدم وجود الإدارة لترشيد الأموال. من هنا على الدولة أن توجد صندوقاً يحتوي على موجوداتها العقارية وغير العقارية، تشكّل الضمانة لسندات دين تصدرها لاستبدال الدين الحالي وبنسبة 0% فائدة مع الإحتفاظ طبعاً بملكيتها. وبذلك تنخفض قيمة خدمة الدين للدائنين وهي المصارف والبنك المركزي، وتستبدل الدين القديم بآخر جديد، وهكذا تسدّد الدولة دينها الداخلي”.
التسليفات المتعثّرة
تبقى التسليفات التجارية المتعثّرة المعروفة بـ performing loans Non، والمسجّلة على دفاتر المصارف وبفائدة صفر. عن ذلك يلفت البعاصيري الى أنه “من الأفضل بيعها الى مؤسسات دولية مثل البنك الدولي على شكل سندات استثمارية خاصة بأسعار متدنّية، فيحتسب سعر الدولار على أساس 20 سنتاً على سبيل المثال. وبذلك اذا كانت قيمة الدين 100 ألف دولار يتمّ شراؤها بقيمة 20 ألف دولار، مع خسارة قيمة الفائدة التي ستحصّل في المستقبل عند تدفق الكاش من الصناديق الإستثمارية، على غرار الشيكات الورقية والتي تحوّل الى نقدية بنسبة 40% منها”.
ويسترسل: “فضلاً عن ذلك، وفور عودة الثقة، يمكن للحكومة أن تتوجّه نحو البنك الدولي لإعلامه أنها ستصدر سندات دين للمستقبل، فيضمنها على أن يصدرها لاحقاً بنسب فوائد 1% أو 2%”.
وحول “زوال” القطاع المصرفي عندما تصطدم الحافلة بقعر المهوار وحصول الإنفجار الكبير، يؤكّد أنه من غير المفترض أن يحصل ذلك، علماً أن كل شيء وقفٌ على سياسة الحكومة.
وفي ما يتعلق باستبعاده عن تعيينات نواب حاكم “المركزي” التي كان سيؤدّي فيها دوراً بارزاً ويشكّل قيمة مضافة نظراً الى خبرته في المجال، عزا الأمر الى سببين: أولاً، رغبة الحكومة بإدخال دم جديد، وثانياً، وجود فيتو عليّ من رئيس الحكومة والحكومة والمكوّنات الرئيسية فيها من دون استثناء، ومنهم جبران باسيل، بسبب العلاقات التي تربطني بالولايات المتحدة الأميركية التي تدعمني.
وحول تعليقه عما يطلق عليه من اسم “الوديعة الأميركية” الأمر الذي دفع الى “تعيينه” جهة مفاوضة بين مصرف لبنان وأميركا نفى هذا الأمر وقال: “لا أفاوض باسم البنك المركزي أو لبنان مع “الأميركان””. يبقى احتمال دخوله نادي رؤساء الحكومات وارداً في حال تم تغيير الحكومة الحالية كما يتردّد إعلامياً، إلا أنه يؤكّد أنه لم يسعَ يوماً لهذا المنصب، ولم يُطرح عليه أصلاً.