كتب سعد الياس في “القدس العربي”:
كأن التاريخ يعيد نفسه في لبنان مع الجنرال ميشال عون الذي لمع نجمه عام 1988 كرئيس للحكومة العسكرية مع احتفاظه بقيادة الجيش، حيث أعلن حرب التحرير ضد الجيش السوري في 14 آذار 1989 لينعطف بعدها إلى داخل ما كان يُسمّى المناطق الشرقية ويفتح حرباً مع القوات اللبنانية دامت أشهراً، وتسبّبت بإضعاف قوة المسيحيين وهجرة عائلات كثيرة إلى دول الغرب واستراليا وبذهاب النواب إلى الطائف.
في تلك الفترة رفع الجنرال عون شعار “تريدون الدولة أم الدويلة؟” وخيّر المسيحيين بين الجيش والميليشيا بعدما كان طلب مؤازرة القوات في حرب التحرير وفي المعارك التي تلتها وخصوصاً مع الحزب التقدمي الاشتراكي في سوق الغرب، ويومها أصابت الأزمة الاقتصادية الجيش وانقطعت رواتبه وفُقدت مادة “اللحمة” من طعام المؤسسة العسكرية تماماً كما هو الحال الآن.
وفي تلك الفترة أيضاً تمايزت بكركي في موقفها عن موقف الجنرال، فغضب مناصرو عون وتوجّهوا إلى الصرح البطريركي واعتدوا على البطريرك مار نصر الله بطرس صفير الذي اضطر إلى مغادرة الصرح إلى الديمان.
اما اليوم وفي ظل “العهد القوي” فيبدو المسيحيون أيضاً مشتّتين وضعفاء، ويتمنى قسم كبير منهم الهجرة إلى الخارج في ضوء الانهيار الاقتصادي والمالي غير المسبوق منذ 100 عام، بعدما اعتقدوا أنه بعد انسحاب الجيش السوري ستكتمل السيادة ويتحقق حلمهم في الحرية والاستقرار والأمان. واعتقد قسم كبير منهم أن الجنرال عون طالما حقّق حلمه بالرئاسة سيبدّل سياسته، وسيقف على مسافة متساوية من كل الاطراف اللبنانية ولن يبقي على تحالفه المرصوص مع حزب الله. لكن النتائج جاءت عكس التوقّعات، فأصيب مسيحيو 14 آذار بخيبة أمل كبيرة وضاع حلمهم، وبدل أن يسعى الرئيس عون إلى تقوية الدولة حمى الدويلة، وبدل أن يدعو إلى مؤتمر لمناقشة الاستراتيجية الدفاعية ووضع سلاح حزب الله تحت إمرة الجيش، شكّك بقدرة الجيش غير الكافية على محاربة إسرائيل واستمر بتوفير غطاء مسيحي لسلاح الحزب.
وعلى غرار عون، فإن مناصري التيار الوطني الحر حلفاء حزب الله يبدون منبهرين بالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، ويضربون أحياناً بسيف الحزب ويهدّدون به خصومهم في القوات اللبنانية بعدما تمّ الانقلاب على اتفاق معراب الذي بموجبه تبنّى رئيس حزب القوات سمير جعجع ترشيح عون، واعتقد أن الأخير سيبدّل نهجه حتماً بعد هذه المصالحة المسيحية المسيحية، وسيبتعد عن حزب الله ويعود إلى خطابه القديم في المنفى حيث كان يرفض بقاء هذا السلاح بذريعة تحرير مزارع شبعا.
هذا الانصهار العجيب بين التيار والحزب، وهذا الدفاع غير المبرّر عن سلاح حزب الله ممن كانوا يزعمون أنهم وراء قانون محاسبة سوريا والقرار 1559 في مجلس الأمن الدولي، وهذا الابتعاد عن الحياد أو النأي بالنفس الذي ورد في البيانات الوزارية المتتالية بلا جدوى، حمل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي إلى رفع الصوت مناشداً رئيس الجمهورية فكّ الحصار عن الشرعية وتحرير القرار الوطني وإعلان الحياد. وقد أزعج هذا الموقف أوساط بعبدا التي لم تردّ علناً على مضض بل حاولت القول إن البطريرك والرئيس متفقان على هذه المبادئ، فيما تولّى جمهور التيار العوني حفلة سُباب وشتائم بحق البطريرك الراعي لم تصل بعد إلى حد ما تعرّض له البطريرك صفير وما زال وآخرهم من المحلل السياسي جوزف أبو فاضل.
ولكن إذا كان قسم من جمهور التيار لا يزال يسير في هذا الخط وراء حزب الله، ومتبّنياً طروحاته، ومعجباً بإطلالات أمينه العام ودعواته إلى التوجّه شرقاً، إضافة إلى إعجابه بما أصدره قاضي الأمور المستعجلة في صور محمد مازح من قرار بحق السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا، فإن قسماً آخر بدأ يتململ من التحالف مع حزب الله ومن كون بندقيته سبباً للأزمة الخانقة وللجوع الذي بدأ يدقّ أبواب جميع اللبنانيين. ويدعو هذا البعض إلى إعادة النظر بالعلاقة مع الحزب ودرس جدواها وتداعياتها على مجمل الوضع الذي بات مهدداً بالانهيار التام وبفشل العهد.
لكن على الرغم من ابتعاد قسم من الناشطين عن طروحات التيار بعدما باتت العلاقة مع حزب الله مثار جدل، وعلى الرغم من انفصال نواب عن “تكتل لبنان القوي” كالنائبين شامل روكز ونعمت افرام وتمايز النائب ميشال معوّض، إلا أن رئيس التيار جبران باسيل ما زال يُمسِك بالدفّة مستفيداً من الثنائي الشيعي في حكومة اللون الواحد للاستئثار بكل التعيينات المسيحية والامساك بالقاعدة الشعبية.
ويسعى باسيل للتوفيق بين إبقاء تفاهمه مع حزب الله وبين عدم إغضاب الطرف الأميركي، وظهر ذلك في اكتفاء وزير الخارجية ناصيف حتّي المحسوب على التيار بلقاء السفيرة شيا من دون ذكر كلمة “استدعاء” أو “تنبيه” في الخبر الرسمي خلافاً لما يطالب به حزب الله. كما يحاول باسيل التوفيق بين التوجّه شرقاً وعدم إغلاق الأبواب مع الغرب إدراكاً منه أن مثل هذا الخيار المشرقي يتعارض مع الخط التاريخي للمسيحيين وارتباطهم بالغرب، وخوفاً من أن تستهدفه الولايات المتحدة بالعقوبات وتقضي على حظوظه في رئاسة الجمهورية.
وعلى مقلب آخر، فإن “تيار المردة” برئاسة النائب السابق سليمان فرنجية المعروف بعلاقته القديمة بمحور المقاومة، يجيد الحفاظ على التوازن في علاقاته بين الأفرقاء الأساسيين، وهو يبدو أكثر رصانة في علاقته بحزب الله من دون أن يقطع العلاقة مع الأميركيين، وفي الوقت ذاته لا يدير ظهره إلى المكوّن السنّي ممثلاً بالرئيس سعد الحريري خلافاً لما باتت عليه العلاقة بين الحريري وباسيل، وعرف كيف يتصالح مع جعجع من دون أن يتفقا على الخطوط السياسية الكبرى.
ولكن على الرغم من أن حزبين مسيحيين هما “التيار” و”المردة” من أصل أربعة أحزاب مسيحية رئيسية يشبكان علاقات وثيقة بحزب الله، إلا أن البيئة المسيحية عموماً لا تبدو حاضنة لمثل هذه العلاقة بالحزب الايديولوجي وترفض جرّها إلى الانهيار والجوع تحت حجة دعم السلاح غير الشرعي، كما ترفض أن تدفع ثمن أي حرب جديدة أو أي حسابات سياسية وأي تقارب تكتيكي أو تحالف استراتيجي بين فريق مسيحي حزبي وفريق شيعي تتهمه واشنطن بالإرهاب وتفرض حصاراً عليه تطال تداعياته كل اللبنانيين. وبسبب هذا الحزب توقفت الاستثمارات الخارجية وتأثّرت سلباً علاقات لبنان بالدول العربية والغربية وامتنع السيّاح العرب والأجانب عن زيارة البلد، وانعدم النمو وضُرِب الاقتصاد وإنهارت الليرة أمام الدولار، وبسبب كل هذه المستجدات بدا الرئيس عون محاصراً اليوم في قصر بعبدا كما كان محاصراً عام 1989. وخير معبّر عن هذا التوجّه العام هو البطريرك الراعي الذي يستعد لزيارة الفاتيكان في إطار سعيه في مئوية لبنان الكبير إلى حماية الكيان والحفاظ على حياده بعيداً عن المحاور وخصوصاً محور الممانعة.