كتبت جويل رياشي في صحيفة “الأنباؤ الكويتية”:
لا جديد لجهة تداول اللبنانيين بأسعار صرف الدولار الأميركي في تعاملهم في سوق البيع والشراء الداخلية، وهو الأمر المعتمد منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، تاريخ بداية ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي وخروجه من دائرة الليرات الثلاث! لكن اللافت اليوم، شح تبادل العملة الخضراء في التداول بسبب خشية اللبنانيين من التفريط بها، وامتناع عدد من الشركات عن قبضها نقدا، واحتساب أسعار قطع تبديل السيارات مثلا وفق سعر الصرف في السوق السوداء.
ظاهرة لافتة لدى عدد من وكلاء شركات السيارات الأجنبية في لبنان، وبينها وكيلة إحدى شركات السيارات الكورية الجنوبية الأكثر مبيعا في السوق اللبنانية، التي تمتنع عن قبض العملة الخضراء، الأمر المستغرب لدى زبائنها الذين يفضلون الدفع بالدولار بدلا من شرائه من السوق السوداء.
في المقابل، لجأت شركات تبيع سيارات أوروبية معروفة الى القبض بالعملة الوطنية وفق أسعار سعر الصرف الرسمية المعتمدة من مصرف لبنان، اي 1515 ليرة لبنانية، مع ملاحظة مضاعفة أسعار قطع الغيار بالحد الأدنى.
آلية معقدة يدفع ثمنها المواطن المغلوب على أمره، مع ركود في سوق بيع السيارات المستعملة المستوردة من الخارج، وحتى السيارات الجديدة، في ضوء توقف القروض المصرفية على أنواعها، وليس تلك الخاصة بالسيارات. وبالتالي لم يعد أمام اللبنانيين سوى صيانة سياراتهم، والاكتواء بنار غلاء القطع، وحتى أسعار الزيوت التي يستهلكونها شهريا، ذلك ان أيام الترف في السيارات قد ولت الى غير رجعة، أقله في المستقبل القريب.
وبات اللبنانيون يتداولون عبر وسائل التواصل الاجتماعي طرائف تتعلق بوقاية سياراتهم من الأعطال، وتفضيل المشكلة الصحية على تعطل السيارة، ذلك ان الأولى مقدور على كلفة علاجها ماليا.
الأمر يتخطى السيارات، الى شراء الأدوات المنزلية وبينها القطع الكهربائية التي كانت تعرف بالكماليات، ذلك ان التجار يشترطون في أحسن الأحوال الحصول على نصف الثمن بأوراق الدولار الأميركي النقدية، والنصف الثاني بالعملة اللبنانية وفق سعر الصرف بالسوق السوداء.
يحتار اللبنانيون في اعتماد سبيل لمواجهة التحديات الحالية، خصوصا غير المتاح لهم الحصول على ما بات يعرف بـ «الدولار الأميركي الطازج» الذي يأتي من تحويلات خارجية مصرفية حصرا، ذلك ان التحويلات الإلكترونية تسدد بالعملة المحلية وفق سعر صرف متوسط يوازي ثلث السعر في السوق السوداء. يضاف الى ذلك تعذر الحصول على دولارات من الودائع المصرفية التي باتت تسدد وفق دفعات محددة لا تتخطى الألفي دولار شهريا وبالعملة المحلية، بسعر صرف يوازي ثلث السعر الفعلي في السوق السوداء.
آليات جديدة دخلت قاموس الحياة اليومية اللبنانية، ومنها تعذر تحديد حجوزات مسبقة لأعراس، مع رغبة العروسين في إقامة حفل استقبال يلي الزفاف تقدم فيه المأكولات.
فقد رفضت غالبية الشركات التي تعنى بهذا النوع من المناسبات، الارتباط مسبقا، تاركة تحديد الأسعار الى اليوم الذي تقع فيه المناسبة، خشية التعرض لخسائر مالية مع توقع ارتفاع سعر صرف العملة الخضراء. وبات رفض تلقي دفعات بشيكات مصرفية من البديهيات، ذلك ان الأخيرة غير قابلة للتحصيل نقدا، ولا تتعدى قيمتها نسبة 18% من القيمة الفعلية للفاتورة، مع تحصيلها نقدا على دفعات طويلة الأمد.
هذه الإجراءات تطاول أبسط الأمور اليومية في حياة المواطن، وصولا الى تقنين في الحصول على علب السجائر للمدخنين، وغياب العلب من المنصات المخصصة لها في نقاط البيع والسوبر ماركت. وبات الظفر بـ «كروز» (كرتونة تضم 10 علب) دخان (سجائر) من الإنجازات المحسوبة.
ويجيب أصحاب المتاجر ان السجائر باتت تخضع لـ «بورصة» تتعلق بسعر الصرف، مع توقع ارتفاع أسعارها يوميا بنسب يحقق فيها التجار أرباحا جراء تخزين كميات، ما يفسر ظاهرة الامتناع عن البيع.
هل يبدو المشهد قاتما الى حد التهويل بالمجاعة والتسليم باليأس كما يحاول البعض التعميم من خلال السوشيال ميديا؟ الجواب هو كلا. جولة على أماكن السهر في شوارع معروفة بينها منطقة مار مخايل ـ النهر على المدخل الشرقي للعاصمة تدحض أساليب نعي الحياة في بلاد الأرز.
والأمر عينه يتكرر في عدد من المناطق الجبلية، وفي الأماكن المشهورة باعتماد أسعار سياحية، ذلك ان غالبية اللبنانيين قرروا تعويض حرمانهم السفر، بسبب الإجراءات التي تفرضها بلدان أوروبية عدة، الى إيقاف المصارف العمل ببطاقات الائتمان في الخارج، بالإقبال على السياحة الداخلية والاستمرار في عيش مظاهر ترف اعتادوا عليها.
مفارقات عدة في الحياة اليومية في وطن الأرز، والخلاصة واحدة: صحيح ان أشياء كثيرة تبدلت، لكن الإصرار على الحياة يبدو أقوى عند اللبنانيين.