كتب أنطوان فرح في صحيفة “الجمهورية”:
في الأوساط القريبة من الحكومة والعهد، يسري كلام مفاده انّ سعر صرف الدولار في السوق السوداء سيواصل الانخفاض الذي بدأ قبل بضعة ايام وصولاً للاستقرار عند السعر شبه الرسمي الذي حدده مصرف لبنان للصرّافين، ولقبض الحوالات الدولارية بالليرة عبر شركات تحويل الأموال.
يدّعي مقرّبون من العهد ومن الحكومة، انّ التراجع في سعر صرف الدولار في السوق السوداء يعود الفضل فيه الى إجراءات قرّر مصرف لبنان اتخاذها بتوجيهات من القيادة السياسية في البلد. ويذهبون أبعد من ذلك بالقول همساً، انّ الارتفاع الجنوني للدولار في السوق السوداء سياسي، وانّ من يعمل على المضاربة ورفع سعر الدولار سيضطر الى وقف هذا النهج لأنه بات مكشوفاً. ويغمز بعضهم في هذا الكلام من قناة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فيما يذهب آخرون الى الاشارة بالاصبع الى الولايات المتحدة الأميركية، بالتعاون مع اطراف سياسية في الداخل.
هل يمكن أخذ هذا الكلام على محمل الجد والتعاطي معه على أساس وجود قطبة مخفية في موضوع اسعار الصرف؟ وهل سيواصل دولار السوق السوداء التراجع فعلاً ليصبح سعره موازياً لسعر الصرف المحدّد من قبل المركزي؟
حالياً، يوجد 3 اسعار لصرف الدولار. السعر الرسمي الثابت (1507)، السعر الرسمي المُبتكر (3850-3900)، سعر السوق السوداء المتحرّك الذي لامسَ قبل حوالى الاسبوع، الـ10 آلاف ليرة، قبل أن يبدأ تراجعاً تدريجيّاً الى ما دون الـ7 آلاف ليرة. القاسم المشترك بين الاسعار الثلاثة انها كلها مُصطنعة، ولا تعكس الوضع الاقتصادي والمالي في البلد، كما يُفترض. واذا كان سعر العملة في أي بلد يرتبط بنسب النمو، والتضخم، وسعر الفائدة، والثقة في النظرة المستقبلية (outlook)، فإنّ هذه المعايير مختلّة في الوضع اللبناني الحالي، الى درجة انّ بعضها غير واضح، وبعضها الآخر تحت الصفر.
هذه الحقيقة تقود الى الاستنتاج انّ الاقتصاد دخل مرحلة الانهيار غير المُبرمج حالياً. وبالتالي، لا يمكن إعطاء تقديرات واقعية لقيمة سعر صرف الليرة. وكل الاسعار القائمة اليوم هي أسعار وهمية، بعضها ثابت بقرار، وبعضها الآخر مُتحرّك من دون قرار
ما ينبغي أن يكون واضحاً لأي مسؤول يريد أن يُبدي رأياً في موضوع سعر صرف الليرة، هو أنّ الوضع الذي يمر به البلد اليوم لا يسمح تقنياً وعلمياً بتحديد سعرٍ منطقي. إذ يُفترض انّ الاقتصاد دخل في مرحلة تجميد اصطناعي منذ إعلان التعثّر، في آذار 2020، وبدأت مرحلة انتقالية يُفترض أن يتم تحديد الفترة التي ستستغرقها، قبل الانتقال الى تنفيذ خطة العبور من الافلاس الى التعافي التدريجي. وبالتالي، لا يمكن منذ الآن تقدير السعر الحقيقي لليرة، وينبغي انتظار بدء تنفيذ خطة الانقاذ. وفي المناسبة، هذه واحدة من نقاط الضعف الكثيرة في الخطة الحكومية، والتي تُحدّد منذ الآن سعراً للصرف في السنوات الخمس المقبلة، في حين انّ المطلوب اختبار السوق بعد بدء تنفيذ الخطة، وبناء على نتائج الاختبار يمكن الركون الى سعر صرف مَرن، يتحرّك ضمن هوامش مضبوطة، من دون أن يعني ذلك العودة الى سياسة التثبيت.
في عودة الى دولار السوق السوداء، تُبيِّن تجارب الدول التي مرّت بأزمات مالية واقتصادية حادة، أنّ التحكُّم في سعر الصرف يصبح مستحيلاً، وانّ أسوأ ما قد يجري لأيّ اقتصاد ليس انهيار عملته، بل الانهيار الفوضوي، الذي يعني أن يصبح الهامش بين القعر (Bottom line) والقمة شاسعاً ومضطرباً صعوداً ونزولاً. وهذا ما عانَته، على سبيل المثال البرازيل بين 2008 و2009 ومن ثم بين 2012 و2013، رغم أنّ أزمتها لم تكن معقدة وعميقة، كما هي حال الأزمة في لبنان. هذا الوضع المضطرب يشلّ كل الاعمال تقريباً، خصوصاً التجارية منها.
اذا حاولنا أن نبحث عن القعر في دولار السوق السوداء، يمكن القول تقديرياً من دون القدرة على الجزم، انه لن يكون تحت مستوى الـ6000 ليرة في الفترة المقبلة. ومع استمرار الحاجة الى تكبير حجم الكتلة النقدية بالليرة، ومع استمرار الغموض في إمكان نجاح المساعي للوصول الى بدء تنفيذ خطة إنقاذية بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، قد يعاود الدولار ارتفاعه الدراماتيكي، رغم البدء في تنفيذ دعم الاستيراد لسلة استهلاكية فضفاضة كلفتها لا تقل عن مليار ونصف المليار دولار سنوياً، وفي هذا الوضع سيُعاود الدولار اختبار سقف الـ10 آلاف ليرة، وقد يتجاوزه بما يعني تحديد قمة جديدة للسعر، بما يرفع في المقابل حدود القعر من 6000 ليرة الى رقم أعلى قد يكون 8000 أو 9000. وهكذا يمكن أن تستمر عملية الارتفاع مع تقلبات كبيرة يبلغ فيها الهامش بين القعر والقمة اكثر من 4000 ليرة، وتستمر خلالها ايضاً ما يُعرف في الاسواق المالية بعملية جس النبض، قبل بلوغ الدولار مستويات جديدة من الارتفاع.
من يتوقّع انخفاض دولار السوق السوداء لملاقاة دولار الصرّافين واهِم، إلّا اذا رفعنا وبصورة دائمة سعر دولار الصرافين. ومن يقول انّ ارتفاع الدولار سياسي، واهمٌ أيضاً، أو يحاول التعمية والتغطية على فشله. وقبل ان يبدأ تنفيذ خطة الانقاذ ليتّضِح المسار الذي سيسلكه البلد في السنوات الخمس المقبلة، لا أمل في تغيير المشهد المضطرب القائم حالياً.