لم يتطلّب الأمر وقتاً طويلاً كي تتلاشى المناخاتُ التي جرى ضخُّها عن «أبواب خلْفية» ستُفتح لبيروت للالتفاف على عنوانيْ «الإصلاح والحياد»، الشَرْطييْن لمدّ يد المساعدة المالية له، بما عَكَسَ ثباتاً عربياً ودولياً على تفادي الذهاب إلى مساراتٍ أبعد من الدعم الموْضعي الإغاثي والمعيشي يمكن أن يستفيد منها «حزب الله» في إمساكه بالواقع اللبناني والإمعان في اقتياده إلى «قوس المواجهة» الإيرانية – الأميركية في المنطقة.
وبدا واضحاً أمس في رأي مصادر سياسية، أن ثمة تَقاطُعات خارجية أقرب إلى تفاهماتٍ تزداد رسوخاً على سقفٍ للتعاطي مع الأزمة اللبنانية، بشقيْها المتداخليْن: السياسي بامتداده الاقليمي انطلاقاً من أدوار «حزب الله» العابرة للحدود، كالذراع الأطول والأقوى لإيران، والمالي – الاقتصادي المتهالك، وذلك على قاعدة التَكامُل بين تصحيح التموْضع الاستراتيجي للبنان والإصلاحات الشاملة بحيث تشكّل هذه الوَصْفة الطريق الأسرع لوقف الانهيار الكبير.
ولاحظتْ المصادر، أن «التوقّعات العالية» التي سادتْ أخيراً حول وجود «أسباب تخفيفية» للبنان أعيد العمل بها لدى أكثر من دولة عربية وغربية، وصولاً إلى دعْم مالي مباشر مرتقب سرعان ما تبدّدتْ على وقع معطياتٍ متزايدة إلى أن الخارج الراغب في مساعدة بيروت، ليس في وارد القيام بأي مبادرات من النوع الذي ينتشل البلاد من الحفرة العميقة قبل «أن يتصالح لبنان مع الشرعيتين العربية والدولية على قاعدة أفعال تبدأ بعودة حزب الله إلى حدود الـ 10452 كيلومتراً مربّعاً والانسحاب من أزمات المنطقة وحروبها ووقف استرهان بلاد الأرز للمشروع الإيراني التوسعي».
واعتبرت المصادر أن ما يشبه «المانيفست السياسي» الذي أطلقه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي تحت عنوان «حياد لبنان وفكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحرّ»، وطلب «نجدة الأمم المتحدة والدول الصديقة» لـ «تطبيق القرارات الدولية وإعادة تثبيت وحدة لبنان واستقلاله»، يشكّل في هذا الإطار خريطة طريق، تشير أوساط ديبلوماسية، إلى أنها تستظلّ سقف الفاتيكان وتعبّر عن قلق كبيرٍ كنسي وسياسي عربي ودولي من خطرٍ وجودي تواجهه البلاد على عتبة المئوية الأولى لـ «لبنان الكبير» وبات يستوجب إعلاء «أصل المشكلة» السياسية التي تنذر بتغيير وجهته استراتيجياً ووجهه الاقتصادي وحتى نظامه الدستوري وتوازناته.
وفي حين رأت المصادر أن سكوت «حزب الله» عن صرخة الكنيسة المارونية التي تصدّت لعملية المراكمة التي يواظب عليها الحزب وقيادته لتحميل الخارج وخصوصاً واشنطن مسؤولية «محاصرة لبنان وتجويعه»، لا يعني أن موقف بكركي لا يترك ارتداداتٍ مكتومة، توقّفت عند تطوريْن يعززان استخلاصها أفول الجو الذي حاول إشاعةَ وجود تراجعاتٍ أميركية وعربية واوروبية حيال مقاربة المخارج الممكنة لأزمات لبنان تحت وطأة تلويح «حزب الله» بـ «بدائل الشرق»، وهما:
* عودة واشنطن إلى المواقف المتشدّدة وصولاً إلى إحداثها «ربْط نزاع» بين الإصلاحات الضرورية وبين التمديد المرتقب لقوة «اليونيفيل» في جنوب لبنان، حيث أوردت قناة «العربية» أن الولايات المتحدة «بصدد إعادة صوغ موقفها من قوة حفظ السلام، خصوصاً أن موعد مناقشة هذه المهمة في مجلس الأمن اقترب، والأميركيون غير راضين عن أمرين ضخمين يتعلقان بمهمة هذه القوة، الأول فشلها في منع حزب الله من تكديس الأسلحة في الجنوب كما في منع تدفق الأسلحة إلى لبنان عبر الحدود مع سورية»، كاشفة أن خيارات إدارة الرئيس دونالد ترامب تراوح بين «منع التجديد» المستبعَد، وبين التوقف عن تمويل هذه القوة «للتعبير عن عدم الرضى».
ونقلت «العربية» عن ناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية أنه «معاً يجب أن نعالج التهديد الذي تشكله إعادة تسليح حزب الله»، مؤكداً «علينا العمل على نقل مهمة حماية لبنان وسيادته إلى مؤسسات الدولة اللبنانية التي لديها مصداقية وقدرات»، ولافتاً إلى «أن على الزعماء اللبنانيين أن يلتزموا الإصلاحات الضرورية وأن يطبّقوها تلبيةً لمطالب الشعب بالقضاء على الفساد المستشري وبحكم أفضل وفرص اقتصادية»، ومشيراً إلى أن «صندوق النقد الدولي لديه الخبراء التقنيون لمساعدة الدول في مواجهة التحديات لكن لبنان مسؤول عن وضع برنامج ذي صدقية وأن يطبّقه».
* تَرقُّب أن لا يخرج الموقف الذي سيحمله وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان الى لبنان بعد أيام قليلة عن سقف «الاستياء» الأميركي، ولا الإحباط الذي كانت باريس عبّرت عنه بنفسها بلسان رئيس ديبلوماسيتها، حين ناشد الحكومة اللبنانية «ساعدوا أنفسكم كي نساعدكم» عبر الإصلاحات التي يُتوقّع أن يرفق لودريان تكرار المطالبة بإنجازها بدعوة لإحياء «النأي بالنفس» عن صراعات المنطقة.’
وفيما كان «حزب الله» يقوم من خلال رئيس كتلته البرلمانية محمد رعد، بإيداع وزير الخارجية ناصيف حتي، عريضة احتجاج رسمية «على التجاوزات التي قامت بها السفيرة الاميركية دوروثي شيا منذ بدء مهماتها» مطالباً «باتخاذ الاجراءات المناسبة لضبْط تصرفها وخرْقها القواعد والاصول الديبلوماسية»، برزت تعقيدات إضافية على خط المفاضات الشاقة بين لبنان وصندوق النقد الدولي عبّر عنها رفْع البرلمان عبر لجنة المال ما يشبه «الفيتو» على تشريع قانون «كابيتال كونترول» (يعتبره الصندوق من أبرز شروط بلوغ تفاهُم على برنامج تمويل إنقاذي)، وذلك على قاعدة أن يأتي هذا التشريع من ضمن الحل المتكامل مع الصندوق، في موازاة خروج «النقد الدولي» بموقفٍ لافت ناشد فيه بيروت «التوافق حول خطة الإنقاذ المالي الحكومية»، مؤكداً أنّه «جاهز للعمل على تحسينها إذا قضت الحاجة» وذلك بعد إعرابه عن قلقه حيال محاولات لبنان تقديم خسائر أقلّ لأزمته المالية، محذّراً من أنّ «هذا لن يؤدّي إلا إلى زيادة تكلفة الأزمة بتأجيل التعافي».
وفي سياق متصل (رويترز)، نقلت صحيفة «فاينانشال تايمز» عن آلان بيفاني، الذي استقال من منصب المدير العام لوزارة المالية قبل أسبوعين، إن ما بين 5.5 مليار وستة مليارات دولار «جرى تهريبها خارج البلاد» من قبل «مصرفيين (لا يسمحون) للمودع بسحب 100 دولار».