Site icon IMLebanon

ضغط رسمي لترسيم الحدود البحرية

كتبت مريم مجدولين لحام في “نداء الوطن”:

بعيداً من آراء الخبراء والمستشارين، يخوض لبنان حالياً معركة دونكيشوتية مع طواحين الهواء، بعد أن صادق وزير طاقة العدو الإسرائيلي على طرح مناقصة لمنح تراخيص التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي، في منطقة بحرية تُعرف بـ”ألون دي” أي “البلوك 72” الواقعة بمحاذاة “البلوك 9″، في خطوة روتينية لكن مريبة بالتوقيت والأبعاد، خصوصاً تلك المتعلقة بترسيم الحدود والمكامن المشتركة. ومع تمدّد الدور السياسي لـ”حزب الله” في لبنان، وتعارض ذلك مع رؤية المجتمع الدولي، يبقى الحذر سيد الموقف.

السؤال البديهي الذي يطرح أوّلاً: هل اطلعت حكومة الأخصائيين على تفاصيل الدورة الثالثة التي أطلقها العدو قبل افتعال بطولات ومعارك وهمية؟ سؤال لا يتضمّن شكاً بقدر ما يعكس ضعفاً في اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لمواجهة الخطوة الإسرائيلية، ومزيداً من التشتّت والإنقسام في مقاربة القرارات السيادية. وهل يعني أن احتمالات تفاقم الوضع، إن استمر عدم ترسيم الحدود، ستفضي إلى حرب لبنانية-اسرائيلية جديدة؟

إستكمال لمسار موجود

منذ العام 2009، تمّ تلزيم البلوك 72 نفسه، لتحالف شركتي ديليك دريلينغ الإسرائيلية ونوبل إينرجي الأميركية في ترخيص رقم 367 / Alon D حيث تمتلك في تلك الشراكة “نوبل” حصة 47.059%، بينما تمتلك “ديليك” حصة بنسبة 52.941%. وفي التفاصيل، تقع الرخصة البحرية لبلوك 72 التي تبلغ مساحتها 400 كيلومتر مربع على بعد بضعة كيلومترات شرق حقل غاز كاريش الذي تديره شركة إينرجي، بالقرب من المنطقة الاقتصادية اللبنانية الحصرية.

والجدير بالذكر أنه وفي الخريطة المنشورة في الوثيقة الرسمية لاستدراج العروض للمناقصة الإسرائيلية، يقع البلوك 72 بالكامل ضمن المياه البحرية الإسرائيلية وليس ضمن المنطقة المتنازع عليها مع لبنان، إلا أن هناك عدة تقارير منشورة مسبقاً تفيد بأن الكتلة 72 تمتد كحقل نفطي وغازي بالفعل إلى منطقة بحرية متنازع عليها، تبلغ مساحتها 860 كيلومتراً مربعاً بين لبنان وإسرائيل. وبالتالي أثيرت، منذ أكثر من عشر سنوات، تساؤلات بشأن “مشروعية العمليات الاستخراجية” في هذا البلوك ومخاوف بشأن “قانونية هذا الترخيص والآثار السلبية المحتملة له”، حيث يمكن القول إن هذا الترخيص يشكل انتهاكاً لسلامة أراضي لبنان، وحقوق الشعب اللبناني لتقرير المصير، لكن الحل لا يكمن في الإستعراضات بل بترسيم الحدود إذ أن أحداً من الحكومات المتعاقبة لم يعترض مسبقاً على هذا الترخيص، لأنه كان شكلياً ولم يتم العمل فيه بشكل جدي.

ووفقاً لمعلومات على موقع ديليك الإلكتروني، يمكن أن يحتوي البلوك 72 على إمكانات كبيرة لاكتشاف الهيدروكربونات. ومع ذلك، وبسبب قرب المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية، لم تجر أنشطة مكثفة على رخصة “ألون دي”، واقتصر العمل كل تلك السنوات الماضية على إجراء مسوحات ثنائية وثلاثية الأبعاد، كما صرحت نوبل إينرجي، إذ كشفت أنها قامت بأنشطتها في المنطقة بأقصى درجات العناية والاحترام للحدود الدولية، بما في ذلك المناطق المتنازع عليها.

إلى ذلك، كان الترخيص على وشك الانتهاء في آذار 2016 حيث لم يقم مفوض الدولة في وزارة البنية التحتية الوطنية والطاقة والمياه الإسرائيلية آنذاك بتمديده. بعدها، ناشد تحالف الشركتين وزير الطاقة يوفال شتاينيتز للتدخل، فمدد لهم الترخيص في 21 آب 2017 ومنحهما 32 شهراً لحفر بئر استكشاف وقد انتهت صلاحية العقد في 20 نيسان 2020 ولكن من دون اجراء أي حفر. وعليه تم فتح دورة التراخيص، كاستكمال لمسار موجود أصلاً، منذ العام 2009. فبدلاً من الإستنفار اللامنطقي، يجدر التحرك فوراً بخطوات جدية مدروسة كي نضبط “فعلياََ” الأمر وليس بالتصريحات فقط، لحماية المنطقة الاقتصادية الخالصة في جنوب لبنان من احتمال النهب.

لا بد من التنبّه إلى توقيت قرار “اعادة استدراج العروض على بلوك 72” في ظل كل ما يحدث من انهيار اقتصادي في لبنان، وبدء تطبيق قانون “قيصر” لما في ذلك من إنذار من كونها فرصتنا الأخيرة قبل خروج ملف ترسيم الحدود والنفط والغاز من أيدي اللبنانيين، ليتحوّل إلى ورقة ضغط ومسألة مرتبطة بالتطورات الإقليمية والتسويات الدولية في المنطقة.

ففيما يمر لبنان بمرحلة حرجة اقتصادياً ومالياً يأتي هكذا اعلان على شكل لعبة سياسية واضحة ضمن توقيت حرج، بهدف الضغط على لبنان لاستكمال الأرضية القانونية والإجرائية وفرض ترسيم الحدود البحرية، بمعزل عن ترسيم الحدود البرية وتبعاً للتصور الأميركي “خط هوف” أو خط الوسط، والذي يعطي لبنان حوالى 500 كلم مربع، والعدو الإسرائيلي حوالى 360 كلم مربعاً من أصل كامل مساحة الـ 860 كلم مربعاً المتنازع عليها، وهذا ما رفضه لبنان لأنه يُقتطع بمقتضاه نسبة من الرقعة النفطية رقم 9، والتي جرى تلزيم الشركات بأعمال التنقيب والحفر فيها. أي بتعبير آخر، هي محاولة شرعنة جديدة لـ”الأمر الواقع” وفرض توقيع اتفاقية لتقاسم انتاج المكامن المشتركة، كما حصل بين اسرائيل وقبرص في حقل أفروديت.

ثلاث ثغرات في النص الرسمي لوثيقة استدراج العقود المنشورة بتفاصيلها على موقع وزارة الطاقة للكيان الصهيوني، أولاها “الإصرار على التلزيم مع منع الحفر”، ثانيها “تقاسم المكامن المشتركة”، وثالثها “تصميم المناقصة على قياس الشركة الإسرائيلية ديليك دريلينغ نفسها التي كانت تستلمها منذ سنة 2009”.

ممنوع الحفر والتنقيب!

في تفاصيل الثغرة الأولى، وبعد الإطلاع على بنود المناقصة المنشورة نكتشف أن الوزارة قد حددت في أكثر من ستة بنود أن الشركة الفائزة لن تكون لديها القدرة على الحفر أو التنقيب والإستكشاف، إلا بموجب موافقة مسبقة وخطية من السلطات المعنية، وهو ما يتنافى مع المنطق والمتعارف عليه في اتفاقيات الاستكشاف والانتاج، إذ عادة ما تضغط الدول على الشركات الفائزة بمناقصات الإستكشاف والإنتاج للإسراع في عمليات الحفر والتنقيب وليس العكس. وأساساً لمَ تلزيم البلوك 72 من الأساس إذا كان ممنوع الحفر والتنقيب؟ والسؤال الأهم، لمَ لمْ تطّلع السلطات المعنية اللبنانية على بنود المناقصة للتصرف على أساسها؟

فقد نصّت المادة 171 في الصفحة 50 من دفتر شروط المناقصة، على أن “يؤكد الفائز بالمناقصة علمه أنه كحامل للترخيص عليه أن يعلم أن البلوك 72 يقع بالقرب من الحدود الشمالية للمنطقة الاقتصادية الخالصة (EEZ) لإسرائيل، ما يعني ان المصالح السياسية والأمنية لإسرائيل، قد يكون لها تأثير سلبي على الأنشطة المحتملة في منطقة الترخيص، ويتنازل حامل الترخيص بموجبه عن أي مطالبة أو سبب دعوى قضائية من أي نوع في المستقبل، في ما يتعلق بهذا البند من الترخيص”.

وللتوضيح أكثر، نلاحظ أنه في المادة 172 التي تلتها، تشرح بشكل صريح ومحدد أنه “لا يجوز التنقيب عن الهيدروكربونات في منطقة الترخيص 72″، وأنه “ليس هناك ما يضمن منح الموافقة على التنقيب في البلوك 72 في المستقبل”. مع التأكيد على أن “الفائز في المناقصة ملزم بالحصول على موافقة كتابية مسبقة من السلطات المعنية كي يستطيع القيام بأي نشاط أو عملية تنقيب في البلوك 72. على أن يفهم حامل الترخيص أنه وفقاً للقانون، فإن المدة القصوى المسموح بها لهذا الترخيص هي سبع سنوات، وأن الفشل في الحصول على الإذن بتنفيذ أنشطة الحفر، أو أي عملية أخرى في إطار هذا الترخيص، لن يكون بمثابة مبرر لتمديد الترخيص إلى ما بعد هذه الفترة”.

تقاسم المكامن المشتركة؟

قبل الدخول في البنود الأخرى في المناقصة لا بد من التأكيد على “وجود مكامن نفطية مشتركة بين لبنان والكيان الاسرائيلي”، كما أن على الدولة اللبنانية التنبه من تداعيات هذه الحقيقة المثبتة وأطماع اسرائيل العدوة وحسابات قبرص القريبة، وأنه لا يمكن تجاهل هذا الملف لمدة أطول بخاصة ان المادة 173 من المناقصة التي طرحها العدو الإسرائيلي، تنص على انه “إذا تم اكتشاف خزان هيدروكربوني عابر للحدود (اي مشترك مع لبنان)، فإن أي نشاط يتعلق بتطويره يخضع لقرار وموافقة السلطات المعنية بناءً على الخيارات المتاحة، مثل ابرام اتفاقية توحيد للتطوير المشترك للخزان”. ويتابع النص: “في مثل هذه الحالة، قد تطلب السلطات الأخرى موافقات إضافية لأي نشاط حفر أو تطوير (المقصود على الأرجح الجيش ووزارة الخارجية ورئاسة الحكومة)”. وتتابع المادة، “تحتفظ إسرائيل بالحق في الموافقة على الأنشطة المتعلقة بخزانات المواد الهيدروكربونية العابرة للحدود أو تقييدها، بما في ذلك الحق في التوقيع أو عدم التوقيع على اتفاقية دولية، وفقاً لاعتبارات سياسية وأمنية على أن يتنازل حامل الترخيص بموجبه عن أي مطالبة أو سبب لاتخاذ إجراء في ما يتعلق بهذه المشكلات.”

وعليه، في هذا البند فُتح باب واضح وصريح أمام “تقاسم المكامن المشتركة” علماً انه من المتوقع ان يبادر الاحتلال الاسرائيلي الى الإستفادة من الإنهيار الإقتصادي في لبنان، وانغماس المسؤولين في المشاكل الداخلية والضغط عبر بدء الحفر واستخراج الغاز، مثلما فعلوا في مكامن قريبة من بلوكات لبنان، ما سيهدد الموارد اللبنانية، خصوصاً تلك الموجودة في المكامن المشتركة. وعليه، على لبنان خوض معركة ديبلوماسية عاجلاً لحماية حقوقه في المكامن المشتركة مع الاحتلال الاسرائيلي، او على الأقل النظر في احتمال ان تتولى الشركات المشغلة عملية التفاوض وتقاسم الانتاج اعتماداً على المادة 38 من قانون الموارد البترولية في المياه البحرية، فلا يضطر لبنان للدخول بمفاوضات مباشرة مع العدو ما سيكون كمحفز لتحالف توتال، إيني، نوفاتك، بتنفيذ التزاماته بالحفر في البلوك رقم 9 في أيار 2021، حيث يبدو حتى اليوم أنه سيتهرب من ذلك ويُرجع ذلك إلى بند “القوة القاهرة”، والتنازل عن قيمة الضمانة التي دفعها وقدرها 40 مليون دولار بخاصة أنه في المادة 174 يتناول العدو موضوع تنقيبنا عن النفط، قائلاً: “تجدر الإشارة في ما يتعلق بالمنطقة المحددة في الملحق 3 (البلوكات اللبنانية)، إلى أن الحكومة اللبنانية، “بدون سلطة”، قد منحت حقوقاً للشركات الخاصة بما يتعارض مع موقف “إسرائيل”، كما هو موضح في نقاط الترسيم المذكورة المودعة لدى الأمم المتحدة وفي الوثائق الحكومية الرسمية التي صدرت في هذا الصدد”.

من سيربح المناقصة؟

تتزايد وتيرة المؤشرات السلبية التي تحيط بملف “التنقيب عن النفط والغاز” في مناطق متنازع عليها أو تشهد اضطرابات سياسية وأمنية كقبرص ولبنان و”إسرائيل”، ومن الملاحظ أنه قد انخفض اهتمام الشركات الدولية التي قلصت استثماراتها بشكل دراماتيكي في المناقصة المطروحة في هذه المنطقة وبالتالي، بالإضافة إلى كل التعقيدات الموجودة في بنودها، هناك مؤشرات ومعطيات على أن العقد سيكون من نصيب شركة ديليك دريلينغ الإسرائيلية بالإشتراك مع إحدى شركاتها التابعة الصغيرة مع استبدال لشريكتها نوبل أينرجي الأميركية، إذ حاولت الأخيرة الانسحاب من الترخيص السابق مراراً بسبب رفض السلطات السماح بالحفر، حتى وصل الأمر مسبقاً إلى بيع حصتها لشركة تابعة لديلكيك، ولكنها تراجعت عن ذلك وانتظرت ليأتي انسحابها طبيعياً بالرغم من كونها قدمت، ككونسورتيوم،عريضة إلى محكمة العدل العليا الإسرائيلية (رقم 4015/20) في 17 حزيران، في محاولة لمنع إعادة طرح الكتلة جولة مزايدة تنافسية جديدة للبلوك 72، وبعدها أصدرت المحكمة قراراً جاء فيه أنه “لا يوجد مبرر لإصدار أمر موقت”، ما يؤكد أن شركة ديليك هي أكبر المهتمين بالفوز بهذا البلوك.

ترسيم الحدود حاجة ملحة

الغريب في الموضوع أنه، وفي سيناريو مشابه سنة 2009، اكتشف الكونسورتيوم الإسرائيلي-الأميركي أي تحالف ديليك دريلينغ الإسرائيلية ونوبل اينرجي الأميركية، حقل تمار البحري للغاز الطبيعي. وبعدها في سنة 2010، تم اكتشاف الغاز الطبيعي أيضاً في حقل بحري مجاور يدعى “ليفياثان” حيث يقع كلا الحقلين بالقرب من المنطقة البحرية المتنازع عليها. وعليه، بهدف معالجة النزاع الحدودي البحري القائم، قدم لبنان إلى الأمم المتحدة حدوده البحرية المقترحة سنة 2011 مستنداً إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1973، التي تمنح الدول منطقة استبعاد اقتصادي تبلغ 200 ميل بحري. لكن إسرائيل لم تصدق على ذلك الإقتراح ما حال دون تسوية المنازعات بين الفريقين. وبعد وقت قصير من الاقتراح اللبناني، عرض العدو الاسرائيلي اقتراحه البحري الخاص على الأمم المتحدة حيث اشتبك الخطان الحدوديان المقترحان مع منطقة معينة متنازع عليها.

هذا وقد نشأ مزيد من الجدل بعد اكتشاف نوبل إينرجي لحقلي غاز تانين وكاريش في عامي 2012 و 2013، إذ يقع هذان الحقلان في منطقتي “ألون أ” و”ألون سي” مع الإشارة أن “ألون سي” يقع على بعد أربعة كيلومترات فقط من الغاز الطبيعي اللبناني بلوك 8، وعلى مسافة تسعة كيلومترات من الكتلة اللبنانية 9 الغنية بالغاز الطبيعي.

تفاقمت التوترات القائمة وانعدام الثقة بين إسرائيل ولبنان بسبب الحفر الاستكشافي الذي قامت به نوبل إنرجي في حقل كاريش، والذي يبلغ 10.6 كيلومترات، وقد أثار هذا مخاوف داخل الحكومة اللبنانية من أن عمليات نوبل إنرجي في حقل كاريش قد تؤثر على احتياطيات الغاز اللبناني، إما عن طريق الحفر في أحد مصادر الغاز المتجاورة، أو عن طريق الحفر الأفقي. أما محاولات الولايات المتحدة لحل الخلاف حول حقل كاريش باءت بالفشل. في نهاية المطاف، وبعد صدور قرار من لجنة مكافحة الاحتكار الإسرائيلية حول احتكار شركة نوبل إينرجي في سوق الغاز الإسرائيلي، اضطرت الشركة إلى الاستغناء عن عقود إيجارها في كاريش وتانين في يناير/كانون الثاني 2016 وبيع حصتها لمجموعة ديليك، التي وافقت بعد ذلك على بيع شركة كاريش وحقول تانين لزيت الطاقة والغاز!

لذا، بينما لا تزال الخلافات حول الحدود البحرية – وبالتالي استكشاف الغاز المحتمل – باقية، استفادت الشركات الفائزة بالتنقيب من الهيمنة الاقتصادية والعسكرية لإسرائيل لدفع تطوير واستكشاف حقول الغاز بالقرب من الحدود وبالتالي، قبل “التهديد والوعيد” واطلاق المعارك الوهمية، على السلطات اللبنانية التحرك فوراً لحفظ حقوق البلاد والعمل جدياً على هذا الملف بعيداً من رفع الشعارات.