كتب شربل بو مارون في “الجمهورية”:
إذا أردت أنْ تقضي على أمَّة يجب أنْ تقضي على حضارتها وتاريخها. للتعرف على مطلق حضارة، وجب علينا دراسة العناصر التالية: طرق العيش، الوضع الإقتصادي، العلاقات الإجتماعية، أنظمة الحكم وأخيرًا الإنجازات العلمية والثقافية والعمرانية. وقد دأبت مختلف الشعوب في حروبها وغزواتها منذ بدء التاريخ على طمس معالم الحضارات المُحتلة وتدمير إنجازاتها الثقافية والعمرانية وإجبار الشعوب المغلوبة على التخلّي عن لغتها الأصلية في محاولة لتذويبها وإلغاء تاريخها. الأمثلة التاريخية كثيرة، من اورليان الذي نهب وخرَب تدمر، إلى المماليك الذين دمروا العاصية (كسروان) عام 1305، مرورًا بتهديم نبوخذنصر الكلداني لهيكل أورشليم، وصولاً إلى فتح القسطنطينية. وما زالت هذه الممارسات مستمرة حتى يومنا هذا، حيث شاهدنا «داعش» تدمّر الكثير من الآثارات لاسيما في تدمر، ومنظمة «أنتيفا» الراديكالية الأناركية التي تدمّر التماثيل والنصب التذكارية في الولايات المتحدة الأميركية، وكان آخر الإعتداءات قرار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان تحويل «متحف» آيا صوفيا إلى مسجد.
مع انقسام الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين، شرقي وغربي، أصبحت الإمبراطورية الشرقية تُعرف بالإمبراطوية البيزنطية، وحين نقل قسطنطين العاصمة إليها، أصبحت تُعرف باسم القسطنطينية. واستمرت هذه الامبراطورية زهاء ألف عام، وخلال الجزء الأكبر من وجودها، كانت إحدى أعظم القوى الاقتصادية والثقافية والعلمية والعسكرية في أوروبا.
وكان للقسطنطينية دور أساسي في نهوض المسيحية خلال عصور البيزنطيين الرومان، كونها إحدى البطريركيات الخمس التي أقرّها مجمع نيقية، وأصبح بطريركها يُعرف بالبطريرك المسكوني والمتقدّم بين المتساوين. وقد اتخذ بطريرك القسطنطينية من كاتدرائية آيا صوفيا مقرًا له، تلك الكاتدرائية التي أصبحت جوهرة العمارة البيزنطية ورمز تطورها وعظمتها، والتي غيّرت تاريخ العمارة وكانت من أعظم الكنائس التي بُنيت.
في العام 1453، غزا العثمانيون تحت قيادة محمد الثاني القسطنطينية وفتحوها في أيار من العام نفسه. تعدّدت الأسباب التي أدّت إلى سقوط القسطنطينية، فمنهم من عزا بداية هذا السقوط إلى الخلاف اللاتيني- اليوناني ككل، لا سيما الحملتين الصليبيتين الثالثة والرابعة، في حين تذهب بعض النظريات الى الإتفاق الذي وقَّع بين جوستينيان الثاني وعبد الملك بن مروان، الذي أجلى آلاف المقاتلين المردة من لبنان، والذين كانوا بحسب المؤرخين يشكّلون سورًا نحاسيًا حول جبل لبنان وخطًا دفاعيًا أوليًا عن بيزنطيا.
ولكن مهما تعدّدت الأسباب، تبقى النتيجة واحدة: فسقوط القسطنطينية شكّل حداً فاصلاً بين العصور الوسطى والعصور الحديثة، وشكَّل فتحها خاتمة المُحاولات الإسلاميَّة لضمّ هذه المدينة إلى دولة الخلافة، التي بدأت مع الأمويين في عهد معاوية، فيما شكَّل سقوطها ضربة موجعة «للغرب المسيحي» الذي أصبح هدفًا للفتوحات العثمانية دون التخوُّف من ضربةٍ خلفيَّة تُثنيهم عن أهدافهم.
بعد تمام الفتح، نقل السُلطان مُحمَّد الثاني عاصمة مُلكه من مدينة ادرنة إلى القسطنطينية وأسماها «إسلامبول» وحوّل جوهرتها المعمارية إلى جامع، وقد غادرعددٌ كبيرٌ من عُلماء وفلاسفة المدينة إلى دويلات أوروبا، لا سيما إيطاليا، حيثُ لعبوا دورًا في إحياء العلوم والمعارف المُختلفة هُناك، وساهموا في عصر النهضة الأوروبية.
رجب طيب إردوغان
يحاول رجب طيب إردوغان مذ كان رئيسًا للوزراء تظهير نفسه كـ»سلطان» عثماني جديد مع سياسة توسعية. فهو يعمل جاهدًا لتغيير الوجه العلماني لتركيا وإعطائها صبغة إسلامية متشدّدة وإعادتها على رأس الخلافة الإسلامية.
وفي ما يلي قراءة تاريخية مبسطة للتاريخ العثماني: فعثمان ينتمي إلى قبيلة قايي التي تنتمي عرقيًا إلى المغول، وقد عُرف عن المغول بطشهم ومحوهم لحضارات كثيرة… نشأت الدولة العثمانية بداية كإمارة حُدود تُركمانيَّة تعمل في خدمة سلطنة سلاجقة الروم، وتردّ الغزوات البيزنطية عن ديار الإسلام، لكن ما لبثت أن توسعت وضمّت مناطق واسعة وإتنيات مختلفة، وقد كانت عمليات التطهير الإتني تختلف بين حقبة وأُخرى، وبلغت ذروتها مع جمعية الإتحاد والترقّي وارتكاب مجازر السيفو بحق الأرمن والسريان واليونانيين. أضف إلى ذلك، احتلال تركيا لآلاف الكيلومترات من أرمينيا التاريخية ومن أراضي السريان.
فمدينة آني مدينة الألف كنيسة وكنيسة لا تزال محتلة حتى اليوم، وكنائسها مدمّرة وتُستعمل كزرائب للحيوانات. وجبال آرارت لا تزال محتلة على الرغم مما تمثله من حضارة إنسانية وبيبلية.
قضية أُخرى لا تقلّ أهمية عن بيزنطيا وهي قضية «طور عبدين» في جنوب شرق تركيا، حيث كان عدد سكان هذه المنطقة حوالى 500 ألف نسمة، لم يبقَ منهم بسبب المجازر والتهجير سوى 3 آلاف نسمة.
وقد تعرضت مدينة مديات وقرى حاح، بقصيونو، ديرو دصليبو، شولح (مع ديرها القديم دير مار يعقوب)، عين وردو، أنحل، كفرو، آزخ وغيرها للإبادة. وها هو دير مور كابرييل، أقدم دير سرياني، باقٍ في طورعبدين يتعرّض كل يوم لمشاكل تتمحور حول ملكيات الأراضي ورغبة سكان القرى المجاورة من أتراك وأكراد بالاستيلاء على أراضي الدير.
ولم تتوانَ تركيا في أي يوم عن إحتلالها لأراضٍ كثيرة، كان آخرها احتلال جزء كبير من جزيرة قبرص، وقتلها وتهجيرها لسكان مناطق الشمال القبرصي.
حماية التراث الثقافي للشعوب المهزومة
بدأ الحديث عن حماية التراث الثقافي للشعوب المهزومة مع صدور كتاب فن الحرب لـ»صن تزو» في القرن السادس قبل الميلاد، حيث جادل الكتَّاب العسكريون مقولة إنَّ تدمير التراث الثقافي لعدوك هو ممارسة عسكرية سيئة، تشكّل السبب الأول للحرب المقبلة، وغالبًا ما يصبح من الصعب السيطرة على السكان المهزومين. من ناحية أخرى، فإنّ حماية التراث الثقافي لهؤلاء الناس يُظهر لهم الإحترام ويسهّل عملية حكمهم، وهذا ما يُعرف بـ»مُضاعف القوة» في العلم العسكري الحديث. وقد ذكرها الملك ريتشارد الثاني في أقدم قانون انضباط للجيش الانكليزي، حيث شدّد على عدم إلحاق الضرر في المباني الثقافية أو الدينية عام 1385، مرورًا بقانون «ليابار» الموقّع من الرئيس الأميركي لنكولن، وصولًَا إلى اتفاقية لاهاي عام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حال نزاع مسلح. من دون أن ننسى البروتوكول الإضافي الأول لإتفاقيات جنيف الموقّع سنة 1977، نظام روما الأساسي لعام 1998 وقرار مجلس الأمن رقم 2347.
بناءً على ما تقدّم، وجب علينا طرح بعض الأسئلة حول توقيت ونتائج هكذا قرار صدر عن الرئيس التركي، مع كل المخالفات للأنظمة والقوانين الدولية التي ارتكبها.
هل المقصود من هذه الخطوة اليوم شدّ العصب القومي الطوراني من جديد؟ هل الهدف منه جعل تركيا أكثر إسلامية؟ هل الهدف منه تحويل الأنظار عن الوضع الاقتصادي الذي بدأ يتآكل شيئًا فشيئًا، ومنع أي محاولة انقلاب جديدة في تركيا؟
ما هي انعكاسات قرار اردوغان على محاولته الدخول في الإتحاد الأوروبي؟ أم أنّه صرف النظر نهائيًا عن الموضوع ؟ ما هو مستقبل العلاقات التركية – الروسية، وفلاديمير بوتين يعتبر نفسه حاميًا للارثوذكس في العالم؟
وللذين اليوم يتنطحون للدفاع عن كنيسة واحدة (رغم أهميتها) قد تحولت إلى جامع منذ حوالى 600 عام، هل استطاع اردوغان تقزيم مطالبكم من اعتراف بالمجازر وباستعادة الأراضي المحتلة والحضارات المطموسة إلى مجرد مطالبة بكنيسة؟
أخيرًا، سيأخذ التاريخ مجراه، ومن يريد تغيير مجرى التاريخ وجب عليه العمل على تغيير الواقع. ألم يحن الوقت لقيام «لوبي» مشرقي تتضافر فيه جهود السريان والأرمن واليونان، للضغط على مراكز القرار لاستعادة الحقوق المسلوبة، والوصول إلى نظام جديد يضمن حقوق المجموعات الحضارية ( علمًا أنّ كلاً يعمل على حدة)؟
من أراد تغيير الواقع، وجب عليه دراسة خطط استراتيجية ترسم مسار المستقبل والكف عن البكاء على الأطلال.
يبقى أنَّ المستقبل وحده قادر على الإجابة عن كل هذه التساؤلات.