كتبت مرلين وهبة في “الجمهورية”:
توقف سياسيون موالون ومعارضون بدقّة عند التصريحات الاخيرة للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، التي أحدثت صدمة ايجابية في صفوف صقور المعارضة الإسلامية والمسيحية، كما في صفوف مؤيّدي الثورة عموماً، فيما الاوساط المعارضة والموالية للسلطة، تلقفت بحذر تصريحات الراعي التصعيدية والمباشرة، التي تميّزت عن تصريحاته الرمادية السابقة، أي منذ إنتخابه خلفاً للبطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير، حين طالبته صقور المعارضة المسيحية آنذاك باتخاذ مواقف حاسمة، وهزّ عصا بكركي لكي يستحق «مجدها» أسوة بمن سبقه.
عند إنتخاب الراعي خلفاً لصفير هلّل له العهد، ونُحرت له الخراف في الجنوب ترحيباً بمواقفه المؤيّدة للمقاومة، الامر الذي لم تفعله «المقاومة المسيحية» لا على صفحات تواصلها الاجتماعي ولا الاعلامي، بل راقب البعض واستغرب البعض الآخر، فيما انتقد انصار البطريرك الراحل الياس الحويّك آداء الراعي بشدّة.
فماذا تغيّر اليوم؟ ولماذا قال الراعي ما قاله؟ وهل إختلفت نظرة المقاومة المسيحية المعارِضة اليوم الى آداء الراعي بعد تصريحاته الاخيرة؟ خصوصاً انّ زيارات «الحج» المسيحية والاسلامية الى الديمان غلبت على الحركة السياسية الداخلية.
الأوساط الموالية، المعارضة سابقاً، توضح لـ«الجمهورية»، أنّ ما يقوله الراعي في مواقفه وعظاته عموماً، وأخيراً تحديداً، نابع من مسؤوليته التاريخية ومن موقعه في البطريركية المارونية. أمّا في ما يخصّ مواقفه في المراحل السابقة التي كانت تشهد صعوداً وهبوطاً نسبةً لتقلّبات اللحظة، فترى تلك الأوساط، أنّها مختلفة عن المرحلة الحالية، والتي لا يريد منها الراعي مخاصمة العهد او الدخول معه في مواجهة، انما في الوقت نفسه يريد وضع النقاط على الحروف، لأنّ استمرار الوضع على ما هو عليه اليوم لن يُبقي مسيحياً في لبنان. فالقيمة المضافة التي شكّلها الوجود المسيحي في لبنان، في كافة القطاعات التربوية الثقافية والاقتصادية الحرّة، كالمصارف والسياحة والتجارة والطبابة، كانت الكنيسة جزءاً اساسياً منها، وهي ترى اليوم انّها تذهب وتندثر امام ناظريها. على رغم من انّه وفي عزّ الحرب الاهلية لم تُدمّر تلك القطاعات الاساسية الحيوية بفعل الانهيار المالي.
الهجرة المسيحية
وتشير الأوساط نفسها، الى أنّ الراعي بدأ يخشى جدّياً من هجرة مسيحية واسعة، لا يمكن مقارنتها بالهجرة الاستنسابية السابقة. وبالتالي، لم يعد في استطاعة الراعي المناورة في المحاورة…اذ يمكن القول، إنّ خوفه على مستقبل المسيحيين في لبنان كان المحرّك الأكبر لمواقفه الأخيرة. وهو يرى انّ هذا الوضع اذا ما استمر سيذهب الى صورة سوداء غير مسبوقة في تاريخ لبنان وتاريخ الوضع المسيحي فيه…وأمام هذا الواقع ونهاية البقعة المسيحية الأخيرة في الشرق خرج الراعي بهذا الموقف.
مناورة بالاتفاق مع العهد؟
البطريرك الراعي لا يبحث عن مواجهة مع أحد، حسب الاوساط نفسها، انما أراد القول انّه لم يعد يريد الاستمرار في سياسة الترقيع، بل الدخول الى عمق الملفات السياسية، والتي هي تحديداً موضوع الحياد الذي يعيد الاعتبار الى الاستقرار المنشود في لبنان، ويشكّل اساساً لقيام الدولة. وهذا ليس مناورة ولا تواطؤاً مع العهد، مثلما قرأ البعض، لأنّ العهد اساساً في ازمة ومكبّل ولا يستطيع الخروج بموقف معادٍ لـ«حزب الله». فيما تعتبر تلك الأوساط كلام الراعي إدانة للعهد، وانّ الرئيس لو صرّح بما قاله الراعي فما كان الأخير في حاجة الى المبادرة، «فالخطوة لم تأتِ من بكركي الاّ بعدما عجز عنها العهد»، لافتة الى «انّ الراعي لم يطرح موضوع الحياد من باب التحدّي، بل من خلفية خوف وجودي على الوضع المسيحي في لبنان».
عن اي «حياد»؟
المصادر المطّلعة الموالية للعهد تقرأ الحياد بمفهومها، متخوفة من قراءات خاطئة مغايرة للوقائع والحقائق، أراد ظاهرياً مطلقوها الخير للبنان، الاّ انّها في المستقبل ستنقلب سلبياً على الوطن، في حال لم يُطّبق مبدأ الحياد بمفهومه الوطني، او في حال طُبّق لقاء مكاسب خاصة، لن يستطيع لبنان تحمّل تبعاتها لأنّها ستكلفه اثماناً باهظة.
وتوضح تلك المصادر نظريتها فتقول: «انّ طرح الفكرة في الذكرى المئوية الأولى لدولة لبنان الكبير كان جوهره في الأساس، انّه اذا كانت هناك من حظوظ للبنان في البقاء كدولة في المئوية الثانية، فإنّ هذه المئوية لا تستطيع ان تبدأ وان لا تكون دولة لبنان محيّدة عن نزاعات المنطقة بموافقة دولية واقليمية وبلا تحدٍ لأي طرف».
الّا انّ المصادر نفسها تحذّر من «أنّ الدول التي وافقت الامم المتحدة على حيادها هي ثلاثة أنواع: الحياد السويسري والنمساوي والفنلندي، وأنّ للحياد تفسيره في القوانين الدولية. والمفارقة انّ هذه الدول لم تستطع اعتماد كافة أنواع الحياد على رغم من القاسم المشترك الذي يجمع بعضها مع لبنان بالنسبة الى تنوّعها وصغر مساحتها، الّا بعد نزاعات وحروب تضرّرت منها تلك الدول. والقاسم المشترك الثاني، انّه لا يمكن اعتماد الحياد في نظام مركزي قوي، بمعنى انّه لا يمكن إرساء الحياد في دولة نظامها السياسي والاداري ممسوك بيد طرف واحد».
وتوضح المصادر، «أنّ إحدى أهم وابرز اسباب فشل النظام في لبنان، هي مركزية القرار التي أدّت الى تقاسم المكونات المتنوعة مركزية القرار وتعطيل هذه المركزية، ولذلك، ولكي يتّخذ الحياد معناه الحقيقي يجب البحث عن نظام داخلي سياسي وإداري، يؤمّن ما يشبه الحياة اللامركزية في الداخل ويجعل المكونات تقول: ما يجمعنا هي المساحة الجغرافية وهي حدود الوطن التي لا نتخلّى عنها، والحدود هي: الجيش ان يبقى موحّداً، السيادة أي العملة الوطنية أن تبقى موحّدة، وعدم الاختلاف على الخيارات في الخارج، نحيّد انفسنا عن الخيارات ونطلب من الدول كافة احترام هذا الحياد في القضايا الخارجية. ولكن السؤال الأهم، بحسب المصادر: ما هو مضمون الحياد اللبناني: اي ما هي مكوناته؟
فإذا كانت لغوية وإتنية في سويسرا والمانيا وإيطاليا، فالمكونات في لبنان ليست لغوية انما طائفية. ولذلك تسأل المصادر نفسها عن المكوّن المطروح للحياد اللبناني، لأنّ المكونات اللبنانية الطائفية، ولكي تبقى متوافقة في الداخل ولا تختلف على الخيارات في الخارج، يجب توفير اللامركزية الادارية لها في الداخل، وحيادٍ على المستوى الخارجي.
الاّ أنّ السؤال الأهم وفق هذه المصادر، هو أنّ لبنان وعلى مدى 100 عام من عمره، هل مكّنته التراكمات الموجودة فيه من الذهاب الى الحياد؟ بمعنى، انّ لبنان الذي ولِدَ كدولة عام 1920 لم يكد يتمكن من إيجاد حلول لمشكلاته في الدمج بين طوائفه، لتقبّل فكرة الدولة بعد سقوط الدولة العثمانية، ولم يستطع خلال 40 عاماً من إجراء الدمج، حتى جاءته القضية الفلسطينية. ولم يكد ينتهي من فصول القضية الفلسطينية حتى بدأت تتراكم سلسلة التدخّلات التي سببتها في شكل اساس اسرائيل وتهجير الفلسطينيين، ما جعلنا متورطين اكثر في كل قضايا المنطقة المحيطة بنا، وأصبح الحياد امراً مستحيلاً». وتتابع المصادر: «اليوم يرزح على ارضنا مليون فلسطيني ومليون ونصف مليون سوري، فكيف نطرح الحياد اذا لم نكن نملك قراراً دولياً يخلّصنا من الضغوط والمخاطر التي دخلت علينا عند تكوين دولتنا؟».
التوطين ثمن الحياد؟
ما نعلمه انّ اللعبة والمصالح الدولية لن تضغط على اسرائيل لترحيل الفلسطيني في لبنان اليها، ولن تضغط على سوريا لإعادة النازحين اليها، ولذلك ينبغي، وفق المصادر نفسها، التنبّه الى «انّ الكلام عن الحياد يستجلب ردوداً من المجتمع الدولي، الذي سيرحّب بالفكرة بالقول «نضمن لك حيادك بأوضاعك الحالية»، اي بإبقاء ملايين السوريين والفلسطينيين في لبنان، وهذا هو الخطر الاساسي الذي يجب التفكير به ملياً».
وتؤكّد المصادر، انّها ليست ضدّ فكرة الحياد «انما الاهم هو مضمون هذا الحياد،». ومن المؤكّد انّ رئيس الجمهورية لم يقل للراعي امس انّه يعارض هذا الحياد، بل قال له «انّه سيحيّد نفسه ويريد ان يحيّد لبنان عن نزاعات المنطقة وما سُمّي النأي بالنفس».
في سياق متصل، تلفت المصادر الى وجوب قراءة زيارات الرؤساء سعد الحريري وفؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وغيرهم للبطريرك. فهؤلاء لم يقصدوه «بوحي من الروح القدس» ورغبتهم بولادة لبنان المحايد، بل زاروه انطلاقاً من معاركهم مع الشيعة في لبنان. وهؤلاء أنفسهم في الخمسينات والستينات والسبعينات، كانوا انصار عبد الناصر، واعتبروا لبنان كياناً اصطناعياً، وطالبوا بالوحدة مع سوريا، كما اعتبروا انّ القضية الفلسطينية هي القضية الأم، وعلى لبنان ان يكون منصّة للفدائيين الفلسطينيين (اي «فتح لاند»)، وهؤلاء أنفسهم يعتبرون انّ العروبة هي الاساس عندما يكونون في السلطة، ويصبح «لبنان اولاً» عندما يصبحون خارجها. لذلك يجب الانتباه الى عدم فرض الحياد الاصطناعي، لأنّه لا يُصنَع بالقوة والنكايات، بل بالحوار الصريح المنطقي».
وتختم المصادر: «الحياد لن يُعطى لنا مجاناً، فالثمن قد يضرب الصيغة اللبنانية من أساسها، على حساب القضية الفلسطينية وازمة سوريا والحلم الاسرائيلي، بعد افقار وتجويع اللبنانيين، واللعب بالتوازنات الديموغرافية. فلا نكون بذلك أسّسنا للحياد الايجابي بل للمحاصرة والانعزالية».