كل “بالونات” السلطة “نفّست”، الواحد تلو الآخر… من حكومة التكنوقراط المزعومة التي سرعان ما اتضح أنها مجرد بالون منفوخ بأنفاس قوى 8 آذار، إلى محاولات التذاكي والتحايل على صندوق النقد والمجتمع الدولي، مروراً بسلسلة من بالونات الاختبار التي أطلقها رعاة حكومة حسان دياب ولم تكد أن تطوف في الأجواء حتى عادت لتصطدم بأرض الواقع، حيث فشل استدراج العروض لاستبدال حكومة دياب مقابل فك الحصار المالي عن البلد، وتقهقر الرهان على “الاتجاه شرقاً” بعد سلسلة من الخطوات المتعثرة على طول الطريق المؤدي إلى العراق والصين ولم يبق من محطاته سوى وعد “النفط الإيراني بالليرة” الذي يعلم مطلقوه قبل غيرهم أنه غير قابل للحياة تحت قيد العقوبات على طهران، وصولاً أخيراً إلى فقدان الطبقة الحاكمة الأمل بإمكانية فتح كوة في جدار الموقف العربي تتيح ضخ بعض الودائع في الخزينة خارج إطار الرضى السعودي… كل الطرق الالتفافية على الإصلاح والنأي بلبنان عن مصلحته العربية بلغت آفاقاً مسدودة وبلغ البلد معها القعر بأدنى مستوياته الاقتصادية والمالية والاجتماعية والحيوية، إلى أن جاء نداء “الحياد وتحرير الشرعية” ليشكل منفذاً مضيئاً وحيداً يلوح في نهاية النفق المظلم الذي يمرّ به اللبنانيون في ظل ما لاقاه من قابلية للاحتضان الداخلي والعربي والدولي… فماذا تنتظر فخامة الرئيس؟ إن لم يكن لإنقاذ البلد فأقله لإنقاذ العهد!
بعيداً من المناورة والمكابرة، المشكلة باتت واضحة والإصبع أضحى على الجرح الذي استنزف لبنان على مرّ سنوات وسنوات من سياسات الفساد وتعطيل الدولة وتكبيل مؤسساتها واستعداء العرب والغرب حتى وصل اللبنانيون إلى ما وصلوا إليه من فقر وبطالة وعزلة. ولم تكن مصادفة أن يلقى نداء البطريرك الماروني بشارة الراعي كل هذا التجاوب الداخلي والخارجي باعتباره يختزن تعطشاً مزمناً لاستعادة هوية الكيان اللبناني وإعادة ترميم هيكله المتداعي بعدما أوصلته الطبقة الحاكمة إلى درك الانهيار والاندثار. وأمس مع زيارة البطريرك قصر بعبدا متأبطاً عظة “الحياد” وما تعنيه من الحاجة إلى “دولة قوية قادرة على حماية نفسها بنفسها إذا ما اعتدى أحد عليها”، تكون شعلة الحياد وبسط سلطة الشرعية قد أصبحت في عهدة رئيس الجمهورية ميشال عون، فإما يحتضنها ويزيدها توهجاً، أو يتجاهلها ويطمس وهجها، سيّما وأنّ الراعي كان واضحاً في قوله لعون: “أنت الرئيس فامسك بالجميع، ليس من المسموح لهذه الفئة وتلك ألا يهمها من لبنان إلا مصالحها، وأعني بذلك الجميع، وأقصد سيادة القرار الحر وشرعية الدولة حيث لا يفتح كل أحد شرعيته على حسابه (…) “ما بيقيمنا إلا الحياد” من الوضع الذي نحن فيه اليوم”.
وإذا كان سقف التوقعات لدى القوى المعارضة ليس مرتفعاً جداً حيال إمكانية “تبدل موقف العهد العوني” إزاء مخارج الأزمة الراهنة، تعتبر مصادرها لـ”نداء الوطن” أنّ “هذا العهد سيبقى محكوماً بسقف تفاهماته مع “حزب الله” ولن يحيد عنها لا في مسألة الحياد والنأي بلبنان عن صراعات المنطقة، ولا في ملف الاستراتيجية الدفاعية الكفيلة بحصر السلاح بيد الدولة”، مرجحةً في ضوء ذلك أن تستمر محاولات “الالتفاف على مطلب الحياد وتحرير الشرعية عبر عدة أساليب ومبادرات تتخذ شكل ركوب موجة هذا المطلب بهدف تفريغه من جوهره”. وكشفت في هذا الإطار أنّ “السفير الإيراني محمد جلال فيروزنيا يعتزم زيارة الديمان في محاولة للنأي بإيران عن سهام المطالبة بحياد لبنان، في وقت سيغتنم رئيس الحكومة صورة لقائه الراعي نهاية الأسبوع بهدف تعويم حكومته على خشبة الحياد، فيما يعلم الجميع أنّ طهران وحكومة دياب هما المعنيان الأساسيان بالدعوة الحيادية لكونهما يتحملان المسؤولية المباشرة عن فرض العزلة العربية والدولية على اللبنانيين”.
وإذ برزت خلال الساعات الأخيرة زيارة للسفير السعودي وليد البخاري هي الثانية له إلى الصرح البطريركي هذا الشهر، استرعت الانتباه على الضفة المقابلة زيارة المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم مساءً إلى دارة البخاري في اليزرة وتأكيده إثر اللقاء على أنّ “السعودية هي مفتاح الدول العربية وننظر إليها بوصفها الشقيق الأكبر”. وهو ما رأت فيه مصادر مواكبة للمساعي الرئاسية إلى إعادة فتح قنوات تواصل عربية مع لبنان، أنه بمثابة “تسليم من السلطة بالأمر الواقع وإقرار صريح بأنّ هذه المساعي لن تجد آذاناً صاغية في أي بلد عربي طالما بقيت الرياض على موقفها من الطبقة الحاكمة في لبنان وطالما بقي “حزب الله” على موقفه في استعداء السعودية ودعم الهجمات الحوثية عليها”.
وإذ توجهت إلى كل المراهنين على محاولات إحداث شرخ في الموقف العربي عبر زيارات ولقاءات جانبية سواءً مع دول الخليج أو مع دول عربية أخرى كمصر والعراق بالقول: “الجواب على نتائج زيارة الكويت أتتكم على لسان الموفد الرئاسي نفسه بتأكيده على أنّ مفتاح الربط والحل العربي هو بيد السعودية”، كذلك كان الجواب واضحاً إلى الممانعين المراهنين على تغيّر في الموقف الأميركي والمروّجين لتبدلات في سياسة البيت الأبيض إزاء الوضع اللبناني، سواءً عبر التقرير الأميركي الذي أعدته قناة “الحرة” أمس ونقلت فيه إجماعاً أميركياً على أن “لا تغيير في السياسة الأميركية تجاه لبنان” رداً على ما تردد من معلومات في بيروت عن “تليين” في موقف واشنطن تجاه “حزب الله”، أو من خلال تشديد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو على أنّ “رهان الحزب وحلفائه في الحكومة اللبنانية على نتائج الانتخابات الأميركية المقبلة، أمر بعيد عن الواقع، فموقف واشنطن إزاء تقديم المساعدة للبنان لن يتغير حتى لو تغيرت الإدارة”، وأوضح: “عندما تلبي الحكومة اللبنانية مطالب الشعب ولا تخضع لنفوذ “حزب الله”، أنا على ثقة أن دولاً من مختلف أنحاء العالم وصندوق النقد الدولي ستكون مستعدة لتقديم الدعم المالي الذي تريده لتنفيذ خطة إصلاحية، وهذا الأمر سيحصل مع هذه الإدارة أو المقبلة، فموقف الولايات المتحدة واضح جداً ويدعمه الحزبان الجمهوري والديمقراطي”.