IMLebanon

سيدرا التي خذلتها الدولة وأنقذها الجيران

كتبت جودي الأسمر في “النهار”:

 

في صدر سيدرا عبد الله (5 سنوات) التي تعاني الربو، أنفاس تأزمت بشدة ليل أمس. والمنقذ الوحيد لها هو قناع الأدوية الذي يخرج بخارا بواسطة الكهرباء. لكن، يتواصل انقطاع التيار الكهربائي في بيتها، الواقع في حي ضهر المغر بطرابلس، وهو من المناطق التي تعيش فقرها الأسود، في ظلام دامس، في غياب كهرباء لا تتوفر سوى ساعتين خلال النهار.

ما كان من الأب صلاح عبد الله سوى أن حمل ابنته إلى محل البقال عزيز الذي يشغّل مولد الكهرباء لحفظ المثلجات. وضعت سيدرا جهازها، قرابة منتصف الليل، وعادت اليها أنفاسها في محل البقالة. أرسل الأب صورة ابنته الى الزوجة نغم، التي بكت غصة. فقامت بإرسالها إلى مجموعات الواتساب المحلية، فانتقل وجعها إلى كل قلب شاهد هذه الطفلة، وانتشرت بكثافة على مواقع التواصل.

عطاء الجار

لم تمرّ دقائق على انتشار هذه الصورة، حتى اتصل بأهل الطفلة أحمد نشابة، صاحب اشتراكات المولد في المنطقة، وسأل معاتباً: “كيف لا تخبرونني بوضع ابنتكم؟ سأتبرع لكم بمولد كهرباء وأؤمّن المازوت”.

في اليوم التالي، يأتي شبان يقدمون لأهل الطفلة مولد الكهرباء، ويقومون بالإمدادات اللازمة. فدارت الكهرباء في دار سيدرا.

ولم تنته مبادرات الخير في النطاق الضيق. تقول الأم: “أحدهم اتصل بي أيضاً من بيروت، ورفض أن يكشف عن اسمه قائلاً إنه فاعل خير. قال إنه سيتبرع لنا غداً بجهاز يعمل على البطارية. السياسيون في بلدنا ميؤوس منهم. الناس جف ريقهم من المطالبة بحقوقهم. وحده الشعب يتضامن ويخفف المواطن على المواطن وطأة هذه المصائب”.

وتضيف: “عادة أتكتم عن ظروفنا الصعبة. لكن صورة ابنتي جعلتني أختنق. تخطت قدرتي على التحمل، فأرسلتها. لأنني شعرت أنها وجع الطفل وليد المانع (توفي الاثنين في مستشفى الحكومي في طرابلس لعدم تأمين سرير له) وكل طفل وكل مسنّ وكل مريض في لبنان”.

في غرفة الجلوس من هذا البيت القديم، الذي يعلوه سقف مرتفع وتزينه القمريات الملونة، ينضم الينا أحمد نشابة، الذي اقتادنا الى منزل سيدرا، وكان في طريقه يبادل رجال الحي السلامات ويمطرونه بالدعاء “الله يطول عمرك” و”الله يرزقك”، وتلاحقه نظرات توحي برصيد كبير من احترام وثقة الأهالي.

وحين سألناه عن دافعه، قال “أنا مددت الكهرباء لأكثر من مئة بيت مجاناً لأنني أتحسس فقر المنطقة. بعض البيوت أمدها بأمبير واحد، لتضيء لمبة وتلفزيونًا. وأحاول تخفيض أسعاري فأقدم 3 أمبير بـ 60 ألفاً عوضاً عن 90 ألفاً.”

ويخبرنا أحمد أنه يحاول تأمين المازوت من “السوق السوداء”، بسبب شحّ المادة. لكنه استدل على شاب يمدهم بالمازوت حسب تسعيرة الدولة. هذه الأخيرة لا تكترث، منذ خمس سنوات على الأقل، بملف الكهرباء الذي أوقع لبنان في مأزق انقطاع الفيول، لا تزال تتفاعل ضمنه سوء الادارة والتضليلات وملفات فساد لا تنتهي.

فقر وأمراض

سيدرا شقيقة لجهاد (17 سنة) وايهاب (14 سنة) وهما يعملان مع الأب في محل المفروشات. وفي سؤال عن تعليمهما، تتكشف معضلة أخرى في مدينة تعاني أعلى نسبة تسرب مدرسي في لبنان. تشرح الأم “كانا يتعلمان في مدرسة في المنكوبين، ولكن جراء أحداث جبل محسن وباب التبانة، كانت المدرسة تعطل كثيراً. لم يتعلم جهاد وايهاب وجرى ترفيعهما تلقائياً. حين انتقلنا الى ضهر المغر، لم يستطيعا أن يجاريا مستوى المدرسة الجديدة. بالكاد يقرآن الحروف. فتركا مقاعد الدراسة”.

وتعاني الأم أمراضًا عصبية وعوارض في الضغط والقلب ارتفعت بسبب ضائقة اسرتها المعيشية. يحاول أحمد أن يساعدهم في تأمين دوائها ودواء الابنة. وهذا مسعاه لأجل بيوت أخرى في الحي.

أب الأسرة صلاح هو واحد من آلاف اللبنانيين الذين تقلصت أعمالهم أو فقدوها، بدءًا من ظروف الانتفاضة، ثم كورونا، ومؤخراً الدولار. تقول الزوجة نغم “كان معاش زوجي ألف دولار شهرياً، اليوم قلصوا ساعات عمله وهو يتقاضى 150 ألف ليرة”.

كانت سيدرا لا تزال منهمكة بالدفتر والألوان، حين أخبرناها بأننا سنلتقط لها صورة. فدخلت مسرعة مع أخيها الى الغرفة، لتخرج مرتدية فستاناً زهري اللون. وهو يشبه الى حد بعيد لون خديها اللذين تلونا بالعافية مجدداً، لأنها تعيش في حيّ من مدينة بؤسها مدقع، لكنها تستمر بفضل الألفة والتكافل بين أهلها الطيبين، الذين يملكون القليل لكنهم يبذلونه كله لينعشوا روحًا، طفلة، وردة كادت أن تذبل.