كتب رولان خاطر في “الجمهورية”:
حكاية لبنان وبكركي حكاية عتيقة، تضرب جذورها في عمق أعماق التاريخ. يرتبط أحدهما بالآخر، ولا وجود لأحدهما من دون الآخر.
منذ تخلّي «بطريرك الاستقلال» مار نصرالله بطرس صفير عن السدّة البطريركية، إلى رحيله إلى أحضان الربّ، اهتزت ثقة المسيحيين ببكركي، بعدما شعروا أنّ خَلَفه قد لا يحمل إرث «السادس والسبعين» وأسلافِه، فيكون الحلقة التي تنكسر، وينكسر معها المسيحيون في لبنان والشرق.
ظهرت بكركي وكأنّها بعيدة عن واقع الرعية، عاجزة على المبادرة، مكبّلة بحسابات قد تكون سياسية أو شخصية. أمّا اليوم، فعادت إلى صلب المعادلة اللبنانية، عادت محط أضواء الشرق والغرب، متخطيّة مواقع الرئاسات الثلاث، لا يخيفها سلاح غير شرعي، ولا تهديدات أو تحذيرات، مؤكدة أنها العين التي لا تنام، الساهرة على لبنان، وعلى مجده، واستقلاله، وأنها لا تحيد أبداً عن المبادئ الوطنية والأخلاقية التي رسمها البطاركة الشهداء عبر التاريخ اللبناني الماروني.
منذ فترة قصيرة، فتحت بكركي أبوابها لمجموعات كبيرة من ثوار 17 تشرين، على مختلف انتماءاتهم وطوائفهم، مسلمين ومسيحيين، يساريين وشيوعيين وغيرهم، بعدما تراجعت دينامية الانتفاضة، وبتنا أمام واقع مختلف عمّا رأيناه في 17 تشرين، إذ بات ملموساً أنّ الانتفاضة لن تنتقل إلى مصاف الثورة، وما نشهده في الشارع يقتصر على مجموعات ثائرة، تقودها بعض الأفكار والعقائد، مع العلم أنّ الإطار الجديد لناشطي 17 تشرين، والعمل الذي انطلق لإنشاء «جبهة مدنية وطنية»، هو عمل صحّي بالمفهوم التنظيمي للحراك، لكن، من المبكر اليوم الرهان عليه كثيراً، في ظل الاختلافات الكثيرة في الرأي والتي تحتاج إلى مسار طويل لكي تتنظّم وتتوحّد في إطار شامل، في حين أنّ الموجودين في بكركي، هم ضمن معيّة الراعي، وخطاب بكركي ومبادئها التاريخية. وبالتالي، أي طرف لا يجد نفسه منسجماً مع هذه القناعات سيكون خارج السرب الوطني التاريخي العام.
مواقف البطريرك الراعي باتت اليوم البوصلة لمسار الغد. أطلق الراعي دينامية وطنية سياسية حول 3 عناوين أساسية: الأول، فك الحصار عن الشرعية، وهنا يقصد بشكل واضح «حزب الله» الذي يحاصر الشرعية اللبنانية ويخطف القرار السيادي الوطني. الثاني، تطبيق القرارات الدولية وتحديداً 1701 والالتزام بمندرجاته الذي يتجاوزها «حزب الله»، والقرار 1559 والتسليم بسيادة الدولة وبسلطتها على كل الأراضي اللبنانية وتسليم سلاح الحزب. والثالث، الحياد الذي ارتكز عليه لبنان منذ ميثاق 1943، تحت عنوان «لا شرق ولا غرب».
هذه الدينامية التي أطلقها البطريرك ستأخذ وقتها الطبيعي، لكنّها أصبحت في صلب النقاش السياسي في لبنان ولا أحد يستطيع أن يتجاوز السقف الوطني الذي وضعه البطريرك، والذي يشكّل مخرجاً إنقاذياً للواقع المأسوي الذي وصلت إليه الأمور.
ويقول مرجع سياسي معارض لـ«الجمهورية»: «مخطئ من يعتقد أنّ البطريرك تأخر في خطوته. وهنا نستذكر البطريرك صفير عندما أطلق نداء المطارنة الموارنة الشهير عام 2000 الذي دعا فيه إلى خروج الجيش السوري من لبنان، إستلزم الأمر 5 سنوات لخروج سوريا من لبنان في 26 نيسان 2005. لذلك، إنّ إطلاق الدينامية وتحديد السقف ضروريان، ولتترك الأمور لكي تسلك منحاها الطبيعي وفق مقتضيات الظروف. فالبطريرك أطلق النداء اليوم بعدما وصل لبنان إلى حالة يُرثى لها، لكنه أطلقه من منطلق حواري وصولاً إلى المشروع الإنقاذي الخلاصي للبنان».
ويضيف: «هو أمر يرفضه «حزب الله» بشكل واضح، من خلال ما قيل عن انزعاج من الحزب عَبّر عنه رئيس الجمهورية ميشال عون في لقائه الأخير مع الراعي، أو من خلال ما حُكي عن رسالة حملها السفير الإيراني في زيارته بكركي وفحواها انّ «حزب الله» سيرفع ورقة المثالثة حفاظاً على سلاحه اذا استمر الراعي في مطلب الحياد، وصولاً إلى الحملة التي تُساق ضد سيّد بكركي من بيئة «حزب الله»، التي تدرك أنها مستهدفة، على رغم من «سلاسة» موقف البطريرك، لأنّ من يضرب الحياد هو الحزب من خلال انخراطه في الحروب الإقليمية، ومن يتجاوز القرارات الدولية هو «حزب الله» الذي يرفض تسليم سلاحه، ومن يحاصر الشرعية هو «حزب الله» الذي يأسر القرار السياسي اللبناني. وبالتالي، فإنّ هذه البيئة، حتى هذه اللحظة لم تذهب الى المواجهة المباشرة مع بكركي، بل عملت على شنّ حملة تخوين للبطريرك عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ومن غير المستبعد أن تذهب الى مواجهة مباشرة اذا اقتضَت التطورات السياسية، واذا رأت أنّ مواقف بكركي قابلة للتنفيذ».
أما في موضوع المثالثة، فهو ليس بجديد، ويقول المرجع: «في مؤتمر «سان كلو» الذي عُقد في فرنسا عام 2008، حُكي عن تغيير النظام السياسي في لبنان، والانتقال من المناصفة إلى المثالثة، على خلفية تعزيز الحزب لنفوذه داخل السلطة مقابل السلاح، وهو أمر رفضه ويرفضه اللبنانيون، لأنّ «اتفاق الطائف» الذي لم يُطبّق بسبب الاحتلال السوري أولاً، وبسبب سلاح «حزب الله» ثانياً، يجب أن يُطبّق والالتزام بالمناصفة التي تجسّد التعبير الحقيقي لميثاق العيش المشترك. كما أنّ الأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله دعا في إحدى مواقفه الى إعادة النظر في النظام السياسي قبل أن يعود ويتراجع عنه، وبالتالي معلوم أنّ هذا الموضوع يشكل مطلباً غير معلن عند الحزب».
ويقول المرجع السياسي نفسه: «يريد «حزب الله» أن يحتفظ بسلاحه من خلال تعديل الدستور، وأن يقرّ مبدأ المقاومة في الدستور لا ان يبقى في البيانات الوزارية فقط، وأن يتحوّل السلاح جزءاً من التركيبة اللبنانية. ويريد أيضاً تعزيز نفوذه على حساب الصيغة اللبنانية، الأمر الذي سيؤدي إلى ضرب هذه الصيغة ويفسح في المجال أمام البحث عن صيغ أخرى تُدخل لبنان في متاهات لا حدود لها، وكلام المفتي أحمد قبلان منذ فترة عن سقوط صيغة 43 والمطالبة بنظام جديد يندرج في السياق نفسه».
«هناك مواجهة بين مشروعين، يؤكد المرجع. مشروع يمثّل انهيار لبنان، وهو مشروع «حزب الله» وربط لبنان بسياسة المحاور. ومشروع مَثّل ويمثّل ازدهار لبنان، من خلال الحياد».
من هنا، هناك مسؤولية وطنية كبرى على الفريق الإسلامي، يعتبر المرجع، الذي عليه ملاقاة مواقف بكركي وتثميرها. وحتى اللحظة، إنّ المبادرات الإسلامية، من دار الافتاء، ومن زيارة الرئيس سعد الحريري الى بكركي والرئيس فؤاد السنيورة والوزير نهاد المشنوق واللواء أشرف ريفي وقيادات اسلامية أخرى، إلى الحزب «التقدمي الاشتراكي»، مُرحّب بها. لكنّ الأهم ترجمة المواقف، وتثميرها».
ويختم المرجع: «إنّ مسؤولية المسيحيين والمسلمين اليوم، وغداً، هي الحفاظ على هذه المبادرة، وحمايتها، لأنها تشكل مشروعاً خلاصياً إنقاذياً للبنان، وجزءاً لا يتجزأ من الثوابت اللبنانية ومن ثوابت الكنيسة اللبنانية، وعلى أمل ان تتحقق من أجل عودة لبنان إلى جذوره وعودته الى الازدهار، فلبنان لا يستطيع أن يعيش بمعزلٍ عن محيطه العربي وعن عمقه الغربي. هذا هو لبنان، وما يقوله البطريرك هو جزء لا يتجزّأ من تراث لبنان وتاريخه ومن التجربة اللبنانية».