كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
اياً كانت السيناريوهات المرتقبة لمستقبل الوضع في لبنان، لم يتوافر الإجماع السياسي والديبلوماسي سوى على توقّع ما هو اسوأ مما نعيشه اليوم. وان كانت المراجع الأمنية لا تقرّ بذلك، إلّا انّها اتخذت الإحتياطات لمعظم الاحتمالات السلبية على قاعدة، انّ «الأمن الإستباقي» هو افضل الخيارات المتاحة على رغم من كلفتها. وعليه، فما الذي تُجمع عليه كل هذه المراجع؟ ولماذا وكيف؟
على رغم من مسلسل الأحداث الصادمة لمعظم اللبنانيين، والتي يأتي بها كل صباح، وفي كثير من القطاعات الحيوية والخدماتية، سواء ما كان متوقعاً او مفاجئاً، فإنّ هناك نوعاً من الاقتناع لدى فئة واسعة من السياسيين والديبلوماسيين، انّ ما هو آتٍ أعظم وأكبر. فقد ثبت لدى عدد منهم، انّ المعالجات الرسمية الجارية على اكثر من صعيد – وما خلا الأمني منها – ما زال قاصراً عن المواجهة، ليس بسبب العجز الداخلي فحسب، بل لأنّ الظروف اصعب بكثير من حجم القدرات التي خُصّصت لهذه المواجهة.
وباعتراف اهل البيت، انّ ما هو متوافر من امكانات لدى الوطن الصغير المُنهك بالأزمات منذ سنوات عدة، غير كافية ان لم تكن معدومة في بعض المجالات، وخصوصاً النقدية منها كما السياسية، وهي عاجزة عن خرق اي من الحصارات الديبلوماسية والاقتصادية التي استجرتها السياسات اللبنانية المعتمدة في السنوات الأخيرة، سواء على المستوى العربي كما الغربي، والتي تخالف التوجّهات والخطوط العريضة لأكثرية هذه الدول، ولا سيما منها تلك المانحة، سواء عن قبول او عن عجز. ففي الحالتين، تبخّرت مقومات الصمود لدى اللبنانيين، وافتقدت الدولة ومؤسساتها قدرتها على التصدّي لما تعانيه البلاد من معضلات متنوعة.
على هذه الخلفيات، تبني المراجع السياسية والديبلوماسية معطياتها السلبية وتتنبأ بالأسوأ. والى معظم ما سبق من الإشارات، يجدر التوقف امام بعض الملاحظات التي لا يمكن تجاهلها، ومنها على سبيل المثال:
– الاحصائيات والدراسات التي أُجريت في معظم المناطق الشعبية وخصوصاً تلك التي تجمع بين اكثرية سكانها اصحاب الدخل المحدود والمتوسط، تشير الى قدرات متفاوتة على الصمود تمتد من 3 اشهر إضافية الى 6 اشهر، وهي مضمونة جراء بعض المدخرات المالية المحفوظة من اليوم الابيض الى الأسود. ولذلك، فإنّ القراءة الإجتماعية ترى انّ المجاعة الواسعة النطاق باتت في وقت قريب، نتيجة المِهَل التي تُؤجّل الانهيار الكامل الى مرحلة ليست ببعيدة.
– اوحت الحركة الديبلوماسية الأخيرة التي قادتها سفارات عربية وغربية، والمشاورات التي جرت بين مجموعة الدول التي تشكّل «مجموعة الدعم الدولية من اجل لبنان»، انّها تستشعر المخاطر المقبلة، ولم ترَ حتى هذه اللحظة موجباً للقلق من انفلات الوضع المعيشي والاجتماعي والامني. كما بالنسبة الى وقوع ما لم تشهده اي دولة في العالم منذ منتصف القرن الماضي. ولذلك، فهي ترى انّ هناك مهلا أخرى يمكن الاخذ بها. فبلدانهم لن تسمح بسقوط مريع. ولكنها في الوقت عينه ما زالت تحذّر السلطة والحكومة من مخاطر التهاون وتأجيل بعض القرارات الكبرى السياسية منها كما المالية والادارية المطلوبة، وان سمعت كان خيراً، وفي حال العكس ستكون لها قرارات جذرية منعاً لبلوغ الحالات الخطيرة.
-على رغم من الوقت الذي ضاع ومرّ، هناك من يعتقد انّ المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لا يمكن ان تراوح مكانها كثيراً. وعلى لبنان تدارك الأسوأ، بالإسراع في التجاوب مع ما طلبه ولو بالحدّ الأدنى. فتصريحات وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو كانت واضحة، عندما اعتبر انّ اي مؤشر للانفراج بات رهناً بفتح ابواب الصندوق. فهو تحوّل بعلم الجميع المَنفَذ الأوحد في آخر المطاف، بعد سقوط الرهانات الأخرى بالتوجّه شرقاً او غرباً او في اي اتجاه آخر. فالأبواب التي كانت مفتوحة امام اللبنانيين سُدّت نهائياً ولا يتسرّب منها اي امل مرتجى، طالما انّ ما هو مطلوب على مستوى توحيد ارقام الخسائر في القطاع المصرفي او إقرار قانون «الكابيتال كونترول»، من سابع المستحيلات، ومعها قرارات صغيرة تتصل بمكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة والقضاء المستقل، صعبة جداً ومؤجّلة الى حين.
– اثبتت الجولات التي قام بها الموفد الرئاسي الى مجموعة من الدول العربية والخليجية، انّ المتغيّرات الكبيرة غير متوافرة حالياً. وان كان لبنان مصرّاً على عدم طلب «المعونة المهينة» للبنانيين أو «الإعاشة» التي تعممها المؤسسات الخيرية التي تمتلكها، على الدول والمجتمعات الفقيرة فيها، فإنّ ما هو مطلوب من لبنان كبير وكثير. ولربما من الصعوبة بمكان إقناع «حزب الله» بضرورة اتخاذ القرارات التاريخية التي تغيّر من مساره السياسي وتوجّهاته الإقليمية والدولية. من هنا، فإنّ المسؤولية ستُلقى حتماً على المؤسسات الدستورية، من رئاسة الجمهورية الى مجلس النواب.
فالحكومة ثبت انّها كانت وستبقى عاجزة عن اتخاذ اي قرار يُجبر الحزب على تعديل مواقفه او اتخاذ آخر يؤدي الى مثل هذه النتيجة. فالحزب هو من ضَمَن لها مواقعها، كما التركيبة الحكومية الجديدة، وهو ما سيجعل المهمة اصعب مما يتصوره احد.
ومن هذه المنطلقات وغيرها، مما لا يتسع المقال لها، يبدو جلياً انّ كل السيناريوهات المستقبلية لا توحي بأي خطوة او مؤشر ايجابي، لا بل فإنّ بعض القرارات الصغرى، التي عجزت الحكومة عن اتخاذها، ولا سيما منها تلك المتصلة بتوفير الفيول والمازوت لزوم مؤسسة كهرباء لبنان والمولدات الخاصة كما لجهة ضبط الأسعار، تبقى نقاطاً سلبية يسجّلها المجتمع الدولي على لبنان الدولة والمؤسسات. وعملية تسويق تعيين مجلس إدارة كهرباء لبنان بعد عقد ونصف من الانتظار، والعجز في ضبط المعابر غير الشرعية، والقصور في اعادة النظر في «ادارة مؤقتة» لمرفأ بيروت، كُلّفت مهمة «انتقالية» قبل عشرين عاماً، لا توحي بالثقة ولا تعيدها الى حيث كانت بقطاع مصرفي وصف بأنّه «فذ» و«نموذجي» قبل انهياره بأيام قليلة، وبحكومة تبدّل بخططها وقراراتها كلما بدّل اي من اعضائها «ربطة عنقه»، وتلقي بالمسؤوليات، لتبرير عجزها، على جهات وشخصيات مختلفة في استمرار.
وبناءً على كل ما تقدّم، تنتهي المراجع السياسية والديبلوماسية الى قراءتها السلبية، مطمئنة الى انّها في كل ما تتوقعه لا ترى نفسها انّها ظلمت مسؤولاً في اي موقع كان، من اعلى الهرم الى اسفله، او قصدت اهانته. فالجميع في مركب واحد، تقوده مجموعات متناحرة، تنقاد خلف هذه القوة او تلك، وتتقاسم المغانم والمواقع على خلفية «ديماغوجية قاتلة» لا تستثني البشر والحجر، في بلد معرّض لأبشع ما يمكن ان يصل اليه شعب افتقد قادته، ودولة تفتقر الى رجالاتها. فـ «اللهم استر وارأف بأبنائها».