كتب سعد الياس في “القدس العربي”:
قد يعتقد حزب الله أن لبنان بات لقمة سائغة لديه بسبب وهج سلاحه ونجاحه في الهيمنة على قرارات البلد الرسمية وتحالفه غير المسبوق مع رئيس الجمهورية ميشال عون خلافاً لما كان عليه حال رؤساء الجمهورية السابقين. وما زال حزب الله يعتقد أن بيروت هي فعلاً إحدى العواصم العربية الأربع التي تسيطر عليها إيران، وأن لبنان هذا البلد الصغير بمساحته لم يعد محل اهتمام دولي وعربي ما يتيح له بسط سيطرته ومصادرة القرار الوطني، لكنه فوجئ منذ إطلاق البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي نداءه حول “حياد لبنان” بحركة دبلوماسية دولية وعربية غير عادية ترافقت مع التفاف وطني حول البطريركية المارونية، ذكّرت بنداء المطارنة الموارنة الشهير في ايلول عام 2000 الذي دعا برئاسة البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير بجلاء القوات السورية بعد إنجاز الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب.
فعندما صدر نداء المطارنة عام 2000 استحوذ على أهمية كبرى في عهد الرئيس اميل لحود حليف سوريا وحزب الله، لكن البعض قلّل حينها من أهمية تأثير ذلك النداء على موازين القوى إلى أن بدأت تتكتّل المعارضة المسيحية وإلى جانبها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط ثم الرئيس الشهيد رفيق الحريري مترافقة مع قرارات دولية صارمة، وينتهي الأمر بخروج الجيش السوري من لبنان.
والحال نفسه يتكرّر اليوم، يستخفّ حزب الله وحلفاؤه بحجم البطريرك الراعي ويطلقون في حقه اتهامات التخوين والعمالة، منطلقين من شعور بفائض القوة نظراً لما يخترنه الحزب من أسلحة وصواريخ من دون أن يدرك أن هذه القوة بالذات باتت نقطة ضعف العهد والحكومة وسبب العزلة العربية والدولية.
وفي النهاية ليست دعوة البطريرك الراعي إلى الحياد إلا مرادفاً لإعلان بعبدا الذي سعى الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان للتوصل إليه بمشاركة مختلف القوى السياسية ومن ضمنها حزب الله قبل أن ينقلب على هذا الإعلان ويعتبره حبراً على ورق. وليست دعوة البطريرك الراعي إلى الحياد إلا مرادفاً لمبدأ النأي بالنفس الذي التزمت به الحكومات اللبنانية المتتالية التي ضمّت في صفوفها وزراء لحزب الله وانقلب عليه الحزب وأدار له ظهره بقتاله في سوريا والعراق واليمن.
ولو التزم حزب الله فعلاً بإعلان بعبدا أو بالنأي بالنفس، لما كان البطريرك الماروني الذي يحمل مسؤولية الحفاظ على هوية لبنان وسلامته وسيادته انطلاقاً من الدور التاريخي للكنيسة المارونية، بحاجة لأن يدعو إلى الحياد. ولو أخذ رئيس الجمهورية ميشال عون الأمر على عاتقه، ودعا إلى طاولة حوار حول الاستراتيجية الدفاعية التي سبق أن التزم بها بعد انتخابه بدل أن يلبّي طلب حزب الله بتجاهلها، لما إضطر البطريرك إلى رفع الصوت.
أما التذرّع بأن الحياد يتطلّب توافق المكوّنات اللبنانية حوله، فيستدعي بالتالي السؤال لماذا قرار الحرب والسلم الذي يصادره حزب الله لا يحتاج إلى مثل هذا التوافق؟
بحسب معلومات “القدس العربي” فإن البطريرك الراعي يطّلع على كل التقارير والمواقف التي تصدر سواء كانت مؤيدة لطرحه أم معارضة له، لكنه على عتبة نهاية المئوية الأولى للبنان الكبير يريد القيام بمراجعة لما آلت إليه الاوضاع في بلاد الأرز وحال اللبنانيين بمن فيهم المسيحيون الذين كانوا وراء نشوء لبنان الكبير بتفويض لبناني للبطريرك الياس الحويّك عام 1920 مروراً بنيل الاستقلال عن فرنسا عام 1943 والتحرّر من الوصاية السورية عام 2005 من خلال بطريرك الاستقلال الثاني مار نصر الله بطرس صفير وصولاً إلى عام 2020 حيث لا يريد الراعي أن تمرّ المئوية من دون أن تترك بصمة تاريخية. ولذلك هو مصمّم على زيارة الفاتيكان والتواصل مع الأمم المتحدة لدعم لبنان وفكّ الحصار عن الشرعية وتحرير القرار الوطني.
وبالنسبة إلى حزب الله الذي يرفض أي حياد أو تحييد للبنان تحت حجة أن لا حياد مع إسرائيل وللإبقاء على سلاحه، فإن الراعي أكد أن الحياد هو تجاه الجميع ما عدا إسرائيل التزاماً بقضية فلسطين وميثاق الجامعة العربية الذي يفرض الوقوف إلى جانب القضايا العربية، أما أن يبقي حزب الله على ترسانته الحربية وأن يبقي على جبهة الجنوب مفتوحة خدمة للمصالح الإيرانية وسياسة المحاور فهذا أمر آخر.
ويأتي طرح الحياد بين استحقاقين داهمين هما أولاً صدور الحكم في اغتيال الرئيس رفيق الحريري وشهداء ثورة الارز في 7 آب وثانياً التمديد لقوات اليونيفيل في جنوب لبنان في ضوء المواقف الأمريكية الرافضة مثل هذه الخطوة ما لم تترافق مع توسيع مهام القوات الدولية وتطبيق صارم للقرار 1701 نهاية آب. وتُعتبر هاتان المحطتان حاسمتين بالنسبة إلى حزب الله، وتشكّلان مع مواقف الراعي محور استقطاب لقوى محلية وعربية ودولية، فهل يتراجع حزب الله ويلاقي بقية اللبنانيين أم يهرب إلى الأمام ويُبقي البلاد أسيرة سلاحه وارتباطاته، ويهدّد السلم الأهلي؟