كتب علي الأمين في “نداء الوطن”:
تستبطن المواجهة الخفية بين المرجعيتين المارونية والشيعية حروباً سياسية ودينية وجودية تاريخية، أخذت أشكالاً واضحة مع “بطريرك الإستقلال” مار نصرالله بطرس صفير، الذي شكل رأس حربة الثورة ومظلتها المسيحية والإسلامية المعارضة ومن أشرس المطالبين بالسيادة والحرية والإستقلال، إبان حقبة الإحتلال السوري وهيمنة النظام الأمني اللبناني السوري المشترك، والذي كان “حزب الله” في عداده، لكنها تغيرت صعوداً ونزولاً وتردداً مع خلفه البطريرك بشارة الراعي الى ان حسم أمره واتخذ موقفاً متقدماً بعد “ان بلغ الحياد الزبى”، وضرب “حزب الله” كل مفاهيمه ومندرجاته، وحوّل خرقه الى ماركة “شيعية” مسجلة في وجه المارونية السياسية الدينية!.
أما في المقابل فكانت مرجعية الثنائية الشيعية، المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى غائبة الى حد كبير عن الردود على الطروحات السياسية والدينية للمحور الإيراني والسوري، إلى ان تجند المجلس الشيعي، وهو الذي يتبع فعلياً لحركة “أمل”، للإنخراط في جبهة الدفاع عن “حزب الله” وتغطيته دينياً في الحروب التي يخوضها بالواسطة في سوريا واليمن والعراق وصولاً الى ايران نفسها.
اذا فان دعوة البطريرك الماروني بشارة الراعي الى “حياد لبنان” تصدر عن مرجعية دينية مسيحية، وهي وان صدرت من موقع بكركي، الا ان رد المجلس الشيعي من الأب والابن، يسعى الى تظهير ان الحياد دعوة مسيحية، ونقيضها بمثابة عقيدة سياسية شيعية، بحسب ما أوحى بيان رئيس المجلس الشيعي الصامت كما المجلس الشيعي نفسه الذي تصدر بيانات عن رئيسه او نائبه او المفتي الممتاز، بيانات غبّ الطلب، بيانات تصاغ في مكاتب حزبية ويجري اصدارها باسم المجلس الشيعي الذي لم يجد خلال الاشهر الماضية ومنذ انتفاضة 17 تشرين مبرراً لعقد اجتماع لهيئته الشرعية والتنفيذية، ولا كلف نفسه الاهتمام باصدار موقف بشأن الأزمات المعيشية والاقتصادية، ولا بشأن محاربة الفساد، الذي حول المجلس الشيعي خلال العقدين الماضيين، الى معبر لتمرير البضائع عبر المرافئ خدمة لحسابات تجارية وحزبية وشخصية، مستغلاً قانوناً يتيح استيراد ما تحتاجه المؤسسات الطائفية الرسمية من حاجيات لها من دون ان تدفع رسوماً جمركية.وبالعودة الى البطريرك الراعي الذي رفع مطلب الحياد كفرصة لاستعادة لبنان بعض انفاسه الاقتصادية والسياسية، فهي دعوة بدت مفاجئة ليس لمعارضي هذا المطلب فحسب، بل لمؤيديه، فالراعي منذ خلف البطريرك صفير، بدا مجانباً لدعوات السيادة المباشرة التي حملها سلفه، ومهادناً لنهج الممانعة الذي قاده امين عام “حزب الله”، وسار في ركبه الجنرال ميشال عون الذي نال مبتغاه بمنصب الرئاسة الأولى بعد تعطيل للانتخابات دام اكثر من عامين. البطريرك الراعي ساير هذا النهج وإن لم يسر به، بل كان توليه كرسي بكركي في ادبيات الممانعة، انتصاراً لها في مواجهة “بطريرك السيادة والاستقلال”.
من هنا فإن البطريركية المارونية استفاقت على ما وصل اليه لبنان من حال لا يسر العدو والصديق، وهي التي أملت بوصول العماد عون الى رئاسة الجمهورية باستعادة ما فقد من دور المسيحيين في معادلة الحكم والسلطة، كما روّج العديد من المبتهجين بحلف الأقليات، او التحالف الماروني الشيعي بقيادة عون ونصرالله.
إكتشفت الكنيسة المارونية والراعي نفسه، أن هذا المسار يودي بلبنان والهوية اللبنانية التي قامت على الانفتاح والتفاعل مع المحيط العربي والدول الغربية، بل ربما لمست الكنيسة المارونية أن مسايرتها لثنائية الدولة والدويلة، أفضت الى انهيار الدولة وتضعضعها، ولم توفر اي مكسب للمسيحيين لا على مستوى السلطة، ولا على مستوى المؤسسات الاكاديمية والتربوية والاقتصاد ولا على مستوى الحضور والفاعلية، بل العكس تماماً بدت الكنيسة المارونية في موقع الشاهد على انهيار وتراجع كل ما ميّز الحضور المسيحي ثقافياً وحضارياً واقتصادياً.
ربما ادرك الراعي او الكنيسة اليوم ان الترابط بين لبنان والمسيحيين مسألة وجودية. فلا مسيحيين بانهيار الدولة ولا دولة بتلاشي الحضور المسيحي، بل ربما اقتنعت الكنيسة ان المسار الذي يقوده “حزب الله” يرتكز على اولوية الدور الايراني ونفوذه في المنطقة العربية، واولوية السلاح على ما عداه من شؤون الدولة.
خرج الراعي من سفينة العهد التي يقودها نصرالله، قبل ان تغرق، وفي محاولة لتفادي ان تغرق، بعدما ركب هذه السفينة كثر من ابناء الراعي والقطيع الذي يرعاه.
في رد رئيس المجلس الاسلامي الشيعي التصعيدي على الراعي، ما يجب التنويه به لجهة ان الموقف هو موقف “الثنائية الشيعية” وليس الشيعة في لبنان، وهو ينطوي على محاولة مستمرة لتظهير ان السلاح هو صنو الانتماء الشيعي، فـ”حزب الله” الذي طوى الاستراتيجية الدفاعية منذ سنوات بات يركز خطابه على ان السلاح هو لحماية الشيعة والمشروع الايراني، واختفى من ادبياته السياسية كل حديث عن الاستراتيجية الدفاعية والانضواء اسوة ببقية الاحزاب والميليشيات اللبنانية في مؤسسات الدولة الرسمية. يدرك “حزب الله” ان التخلي عن السلاح ليس قراراً ذاتياً، وهو قرار ايراني، لذا لن يقبل بأي صيغة تنزع عنه صفة “الحزب” المسلح، طالما يوفر له السلاح السطوة والنفوذ على الدولة والمجتمع، ويؤمن له حضوراً عسكرياً وامنياً في دول عدة، التخلي عن السلاح هو تخلٍّ عن النفوذ، ذلك ان المشروع الايراني الذي يمثله “حزب الله” في لبنان، ليس لديه ما يفعله في لبنان الا الهيمنة على الدولة.
تصعيد قبلان ضد الراعي يستبطن تحويل مسألة سيادة الدولة الى ما سماه “حزب الله” بلسان الشيخ قبلان “الحق” الذي يقرر “حزب الله” نفسه معياره، لا القوانين ولا الدستور ولا نظام المصالح الوطني والعربي، ببساطة الحق تقرره القيادة الايرانية في لبنان ومن لا يعجبه ذلك فهو ضد الحق، بهذا المنطق والشعبوية تقارب المسألة اللبنانية اليوم من قبل “حزب الله”، كأن يقول احدهم انت مع تحرير فلسطين او ضد تحرير فلسطين؟ والجواب المطلوب نعم او لا، فاذا قلت نعم فانت يجب ان تقف خلف “حزب الله”، واذا قلت لا فأنت مع اسرائيل وعميل. هكذا يراد للبنانيين ان يفكروا ويتصرفوا، أما كيف تدار شؤون المواطنين وكيف تدار مصالح الدولة، وكيف تتحقق مصالحها، فهذا ليس من الاولويات، طالما ان هناك من صدق يوماً ان قتال “حزب الله” في سوريا هو دفاع عن الدولة، ومن روج ان قوة “حزب الله” في اليمن والعراق هي قوة للبنان، ومن صدق ايضاً ان “حزب الله” يمكن ان يرضى باستراتيجية دفاعية وان يكون ولاءه للبنان، ومن صدق ايضاً ان نظام ولاية الفقيه في ايران هو من عقيدة الشيعة.