كتبت جولي مراد في “نداء الوطن”:
حين تجلس مع أسامة الرحباني تكون في حضرة تاريخ عريق، سلالة من العمالقة المبدعين شعراً وموسيقى ومسرحاً، وعبقاً للبنان “الحلم” الذي نتوق إليه بكامل جوارحنا. اللقاء مع أسامة متعة ثقافية وموسيقية وجرعة من الأمل في زمنٍ نحن بأشد الحاجة فيه الى بصيص نور.
كيف كان رضاك عن أمسية “صوت الصمود”؟
لم أقصد بعلبك ليلتها لوعكةٍ صحية لكنّي شعرت بالاعتزاز خصوصاً أنّ العمل قُدّم مجاناً وأشكر فريق العمل فرداً فرداً: نايلة دي فريج رئيسة لجنة “مهرجانات بعلبك”، والمايسترو هاروت فازليان صاحب الفكرة، والسينوغرافي جان لوي مينغي، والمخرج باسم كريستو والفرقة الموسيقية والجوقة وجميع من ساهم في الأمسية. عرض علينا هاروت غدي وأنا المشاركة بالحدث بـ”ربيرتوار” الرحابنة كوننا قدّمنا متتالية “جبال الصوان” و”فخر الدين” فاخترنا الأخيرة وقدّمنا عملاً جميلاً. باختصار كانت أمسية حاكت بجمالها ورقيّها روعة قلعة بعلبك بتراكمها التراثي وتاريخها الفني المتألّق.
كانت دعوة للتفاؤل، بدورك أنت متفائل أم متشائم حالياً؟
أنا بطبعي انسانٌ حالم، ولكنّ تعمقي في تاريخ المنطقة والحضارات التي تعاقبت عليها من فينيقية وكنعانية وعربية، مسيحية وإسلامية تجعلني متشائماً نوعاً ما، خصوصاً أنّنا لم نتعلّم من الماضي. فنحن اللبنانيين لا نجيد استغلال الفرص. حتى في فترة الستينات والسبعينات المزدهرة فشلنا في الالتقاء حول فكرة الوطن والمواطنة. كنا ننجرّ دوماً إلى التجاذبات الخارجية، فنقع تارةً تحت السيطرة المصرية أو السورية أو الفرنسية لأننا توارثنا منطق “الدولة المدنية” منذ القدم أي منذ أيام الفينيقيين. كانت كل مدينة كياناً منفصلاً بتفكيرٍ محدود، فهي لا تفكّر بالاتحاد مع المدن الأخرى مفضّلةً التآمر مع طرفٍ ضدّ آخر، وتُرجم هذا المنطق لاحقاً طائفياً فتقوقعت كلّ طائفة على نفسها، وهكذا فشلنا في صنع المؤسسات. الفساد ينخرنا بسبب “الشخصية” اللبنانية وأرفض تحميل المسؤولية للدولة وحدها. تنقصنا “ديكتاتورية القانون” ورجالات الفكر والدولة بعيداً من المنطق الضيّق والمذهبي والمحاصصي. فحتى لو استقدمنا تاليران أو يوليوس قيصر إلى أعلى مناصب البلد هل تستقيم أحواله؟ طبعاً لا، لأننا لا نعمل إلا بالـ”ترقيع” على الطريقة اللبنانية. شعبنا بارعٌ في التأقلم مع الظروف ولكنّه يرفض التغيير لأنّ لذلك علاقة بالاقطاع والموروث الديني الطائفي لديه.
هل توقعت أن يبقى لأغنيتك “لازم غير النظام” وقعٌ حتى الآن؟
قصدتُ بالنظام “السيستم” وليس مفهوم الـ régime. ليست مشكلتنا في هيكلية المؤسسات بل في عقلية الشعب اللبناني. لا مؤسسات في لبنان بل ينوب عنها الزعيم أو السياسي، وأضحى الفساد روتيناً يومياً ملازماً. يعرف الرجل في أغنيتي أنّه يبحث عن “مثالية” لا تتماشى مع واقعه. هو أمام خياراتٍ واضحة: إما أن ينخرط في “السيستم” أو يهاجر أو ينتحر فيختار الانتحار وتكون نهاية مأسوية.
كيف قرأت “فيديو” ديما صادق عن لبنانيين يهاجرون بسبب البلد؟
لا شكّ في أن وجع الناس حقيقيّ. ولكن الاعلام سلاحٌ ذو حدّين وينبغي استخدامه بحذر. لا أحبّ التشجيع على الهجرة بطريقةٍ مدروسة. أنا أيضاً تتملّكني أحياناً رغبة في الهجرة ولكنني لن أدعو إليها. لا يحقّ لي في الوقت نفسه أن أحكم على الناس، فالبلد انتزع منهم دفء الانتماء، فلا طبابة، ولا ضمان شيخوخة، ولا مقابل لقاء الضرائب. ولكن هذا “الوطن” هو أيضاً “ناسنا” وأهلنا الذين دفنوا في ترابه وصعبٌ جداً أن ننسلخ عن هؤلاء.
لماذا لم تنخرط بحزب؟
ربما كنت مخطئاً فمن ينخرط في حزبٍ يربح دعماً كبيراً وتسلّط عليه الأضواء، ولكن تفكيرنا نحن الرحابنة كان دائماً وطنياً بعيداً من الانضواء تحت فكرٍ واحد يتبناه حزب معين مهما كان هذا الفكر نيّراً.
ألديك أمل بأن تتحسّن أوضاع البلد؟
لا. إطلاقاً. ولن أكذب عليك.
أول مرّة تقول إن فكرة بالهجرة خطرت ببالك!
هي المرة الأولى التي ينتابني فيها شعور من هذا النوع فعلاً. يعيش أصدقائي في مختلف أنحاء العالم ولكني لم أرغب في الهجرة يوماً. أشعر اليوم أنّ من يتعاطون السياسة عندنا لا يفقهون فيها شيئاً. فالمجلس النيابي الحالي مثلاً لا يمثلني أبداً. من قال لهم إنّ لا علاقة للفنّ بالسياسة؟ الفنّ مرآة المجتمع. وما هذه المرآة التي لا تعكس إلا صورة المهندسين والأطباء والمحامين؟ ما هذا الاقصاء المتعمّد للمثقفين؟ إن أردت قتل شعبٍ دمّري ثقافته، وهذا ما حصل عندنا للأسف.
لماذا لم تهاجر بعد؟
أجدني متمسكاً بالدفء الذي يمدّني به أهلي وشعبي. شعوب البلدان الأخرى غير عاطفية وأنا منجذب الى المشاعر الجيّاشة وأنتمي الى نبضها. أهاجر فقط حين أعجز عن التعبير عن أفكاري وشغفي بالموسيقى وأخشى أننا اقتربنا من هذه المرحلة. عملنا ترفٌ، فهو يتأخّر في الانطلاق وأوّل ما يتوقّف في الظروف الصعبة. في البلدان الأخرى يعيش هذا الفنّ على الهبات السخية، بينما متموّلو لبنان الكبار شديدو البخل وآخر همهم الأعمال الرفيعة المستوى.
الفنان اللبناني أيضاً غائبٌ عن ثقافة الهبات والمساعدات الاجتماعية!
فنانونا اختصاصيون بـ “ركوب الموجة”، عكس الأجانب. كان لمايكل جاكسون 51 منظمة خيرية غير حكومية، بينما نتّكل نحن على شركة انتاج عملاقة، وحين تغلق أبوابها وفق مزاج صاحبها، كما حصل مع أهم شركة اسطوانات في العالم العربي نضيع. لو أنتج فنانونا أعمالهم من أرباحهم لساهموا في تنشيط دورة الحياة الفنية عبر توفير العمل للشعراء والمخرجين والموسيقيين والاستوديوات، فهي دورة متكاملة.
هل أنت عاتب على الدولة اللبنانية لعدم دعمها الثقافة؟
لا وجود للدولة أساساً في هذا المضمار ونحن متقدّمون عليها بأشواط، فهي ببطء السلحفاة ولا تفكر إلا باستمراريتها فيما نحن نحلم بتأسيس دولة وبناء وطن، منذ زمن.
لبنان “الحلم” الذي اكتشفنا أنّه كذبة؟
ليس كذبة بل هو توقٌ الى الوطن المثالي. الرحابنة وصفوا الواقع، علماً أنّ معظم مسرحياتهم كانت تنتهي بمأساة. مسرحياتهم تناولت جمال الوطن ومساوءه في آن، فهل من نقدٍ أمضى من الحوار بين “المهرّب” والامبراطور في “يعيش يعيش” وغيرها من المسرحيات؟
لماذا لم تأسّسوا لمدرسةٍ رحبانية؟
إنخرطت في تدريب و”صناعة” نجومٍ باتوا من المشاهير، مثل كارول سماحة ولوريت حلو ويوسف الخال مسرحياً، وآخرين، ولعل أهم تجربة هي هبة طوجي التي أصبحت اليوم عالمية، ولكني لم أركز على الموضوع لأنني مؤمن بأن أي مدرسة ينبغي أن تكون شمولية، فتخصّص دروساً في مختلف أنواع الفنّ وهذا طبعاً مشروع متشعّب ومكلف.
كيف تعيش مسلسل “الذلّ” الذي يعانيه اللبناني حالياً؟
حظّي أنني أعزب ولا أتبضّع بنفسي ولكنّ قدرة اللبنانيين على تدبّر أمورهم مدهشة. أنظري الى ما حصل في الولايات المتحدة حين انقطعت المحارم الورقية. ما يزعجني هو طمع التجار برفعهم للاسعار بشكلٍ فاحش. أما المصارف، فحدّث ولا حرج، فهي ربّ الفساد وهرّبت أموال السياسيين لأنها متواطئة معهم.
هل تؤمن بالثورة وبشعار “كلن يعني كلن”؟
نعم أنا معه فكلّهم فاشلون، لكنّ تطبيق الشعار صعب، ففي كلّ العالم تسقط الحكومة أولاً، وتنظّم انتخابات نيابية ثانياً. ولكن هل تعتقدين أنّنا سننتخب مجلساً جديداً؟ يكفي أن نتابع برامج “التوك شو” لنرى الشتائم المتبادلة بين الشباب والاصطفاف المعيب مع الزعيم فنعرف أنّ منطق الجيل الجديد يُلخَّص بـ”قوم لأقعد محلّك” ليس إلا. طالما لا نفكّر بتطوير ذاتنا ولا نمارس إلا “النكايات” بحقّ بعضنا لن نصل الى بناء وطنٍ سليم.
كيف عشت تجربة الحجر؟
أسوأ فترة في حياتي وما كنت فيها منتجاً أبداً. كنت أقبع ببيتي في حالة ضياع كامل. حتى التلفزيون ما كنت أستطيع مشاهدته ولا عزف البيانو. أنا أعشق الحرية، فهي ضرورية للابداع والابتكار، ولا أحبّ أن أكبّل ولكنّي التزمت بالحجر والتباعد الاجتماعي طبعاً.
ما هي الأعمال الفنية التي تحرص على حضورها ومتابعتها؟
تعجبني المسرحيات تحديداً أعمال عصام أبو خالد مثلاً. لا أحبّ تلقي الدعوات إلى المناسبات الفنية بل من واجبي تشجيع الفنان وقد أحضر مسرحيةً 4 مرات إن أحببتها.
سمعنا أنك تعدّ مشروعاً كبيراً مع هبة طوجي؟
أعمل على مسرحية “نفرتيتي” منذ العام 2010 وألتقي بكثير من الاختصاصيين لتنفيذه في لبنان والخارج، لكن العمل بحاجة الى دعم مادي لأنه ضخم ولست متأكداً من تاريخ اكتماله. عندي أفكار ومشاريع كثيرة ولكنّها تتأخّر لغياب الامكانيات المادية وشخصٍ شغوف بالفنّ مثل أنطوان الشويري مؤمن بالأعمال الرفيعة المستوى. كرحابنة أعمالنا مضنية ومرتكزة على فكر عميق وليس على الربح التجاري. من يعتقد أنّ الرحابنة صنعوا الـ”أغنية” فحسب مخطئ، فالأعمال التي يقدّمونها أبعد من ذلك ومشروعهم “شموليّ”. ففيروز ليست مجرّد “أغنية” بل هي مشروعٌ كبير قوامه الفكر والنقد الاجتماعي في قالبٍ مسرحي وشعريّ وموسيقي. ليس إنتاج هذا النوع من الأعمال مهمّة بسيطة.
على الهامش ماذا تقرأ هذه الأيام؟
مقالات سياسية وثقافية حتى أنني أتابع الفنون التشكيلية وأقرأ عن التاريخ وأحضر الكثير من الوثائقيات.
سمّ لنا فيلماً أعجبك أخيراً؟
نقطة ضعفي أفلام “سكورسيزي”. شاهدت “جوكر” وأحببته كثيراً ولكنه أزعجني لشدّة واقعيته وسوداويّته وتغليبه “شرّ السوشيل ميديا”. أكره دور وسائل التواصل السلبي فهي سمحت للجميع بتحويل نفسه ناقداً وباقتحام حرمة الآخرين وفتحت الهواء أمام الشتم وتأجيج الانقسام.
أتندم لعدم ارتباطك؟
لا أنكر أنني أفكر أحياناً بالوحدة وبمن سيحمل اسمي، لكني لست مستعداً للقيام بالتنازلات المطلوبة فأنا أخصّص أموالي للانتاج وحين تصبح عندي عائلة سأضطر الى التخلي عن هذا الترف.
بدأتَ بالزرع لتحقيق الاكتفاء الذاتي؟
أزرع محبة في قلوب الناس (يضحك). طبعاً أنا مع الاكتفاء الزراعي ولكني لست مع تبسيط الفكرة فهي بحاجة الى أرضيةٍ صلبة وتفترض الاهتمام بالمناطق النائية وليس المدن الكبرى فحسب. ثم لماذا لا يستثمر أغنياء الشمال مثلاً في بناء مصانع توفّر الوظائف والفرص لأبناء المنطقة فيبعدهم عن التطرّف الناتج عن الفقر وضيق الحال؟