IMLebanon

إنتقال المعدن الأصفر من الفقير إلى التاجر الكبير!

كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:

نشتري ذهباً وندفع بالدولار الأميركي! إعلانٌ كفيل باستدارةِ رؤوس الفقراء، وما أكثرهم، 360 درجة لبيع محبس وسنسال و”حلق” والحصول على العملة الخضراء وبيعها في السوق السوداء على سعر عالٍ، وشراء حمص وبن وحليب وحفاضات ودواء وباقة بقدونس بالعملة الوطنية! إنه الزمن الصعب. لكن من اين يأتي أصحاب واجهات الذهب بالدولار الأميركي نقداً “كاش”؟ وهل شراء الذهب، من دون بيعه، يُطعم تجار الذهب خبزاً؟

هناك من يحاول أن يبتسم وهو حزين حزين. أحدهم قرأ إعلاناً لأحد محال المجوهرات عن شرائه الذهب وبالدولار فعلّق: خبأت نصف كيلوغرام من الذهب في مكان ما وحين أجده سأبيعك إياه. وعلّق ثان: أتشترون بندورة وخيار وبرغل ورز مصري؟ وسأل ثالث: تشترون مسابح كوربا أملك واحدة من والدي. وعلق رابع: يا حسرة لا ذهب ولا ألماس ولا تنك عندي عدس. أحدهم يبيع “مشدات للخصر” ومناديل ومحارم ويشتري جميع أنواع الذهب! اللبنانيون يتابعون، يقرأون، تصلهم رسائل الكترونية، ويبيعون الرزق والمدخرات. وكم باتوا مقتنعين بمقولة: عش كثيراً ترى كثيراً! إنه المضحك- المبكي.

نجول في الأسواق فنرى نفس العبارة على كل واجهات الصاغة: نشتري الذهب وندفع بالدولار. ثلاثة أرباع المحال فارغة. لا أحد يشتري والباعة حتى يتضاءلون. فالفقراء باعوا ما يملكون وتجار الذهب والمجوهرات يحاولون جذب ما تبقى. إنهم يرسلون رسائل “أس أم أس” ويفتحون صفحات على السوشيل ميديا ويكادون يلحقون “الفقراء” حتى الى عقر الدار. فهل هذه سياسة إقتصادية جديدة أم هو إفلاس فاضح؟

فظيعٌ فعلاً ما يحدث في لبنان، ليس لأن قطاع الذهب والمجوهرات أصيب كما سواه، لكن لأن ما يحصل دلّ فعلياً على ان الطبقة الوسطى انتهت، وتتنازل حتى عن المحبس والأيقونة والمسبحة وقلادة الله، وكل ما ادخرته بالعرق والجهد، من أجل البقاء.

نقيب معلمي صناعة الذهب والمجوهرات بوغوص كورديان يراقب بالعينين والمشاعر موت هذا القطاع. ويعتبر أن ما نراه من عروضات شراء، ليس إلا محاولة من أجل تقطيع هذه المرحلة الصعبة بأقل الخسائر، أو لنقل ببعض الأرباح التي من شأنها أن يسدّ العاملون في هذا القطاع كلفة الإيجار وما تبقى من أيدٍ عاملة. فماذا عن هذه الدورة الإقتصادية المستجدة، الغريبة والعجيبة، في هذا القطاع؟

بوغوص كورديان هو نقيب صناعيي الذهب والمجوهرات، وكثير منهم لا يملكون واجهات تبيع وتشتري الذهب، ويقول: هؤلاء، أصحاب الواجهات، يشترون اليوم الذهب بعدما فقد الشعب اللبناني القدرة على شراء الذهب، وبعدما بلغ سعر غرام الذهب مع أجرته 55 دولاراً، ما معناه أن شراء أي قطعة ذهب، اقل من متواضعة، من ثلاثة غرامات فقط لا غير تكلف 165 دولاراً، ما معناه، حسب صرف العملة بالسوق السوداء، أكثر من مليون ليرة لبنانية بكثير. فهل تتصورون أن هناك “بني آدم” يدفع أكثر من أجره الشهري من أجل شراء ثلاثة غرامات من الذهب؟ القطاع مات. ومن يشترون اليوم يفعلون هذا ليتمكنوا من تسديد مصاريفهم، وذلك عبر شراء وتجميع الكسر والقطع العتيقة وبيعها الى التاجر الكبير. وبتفسير أدق يشتري صاحب الواجهة اليوم عشرين غراماً، على سبيل المثال، وغداً ثلاثين غراماً، من عياري 18 و21، يذوبها ويحدد عيارها من خلال “شيشنه” (شهادة تُرفق بقطع الذهب) ويبيعها على شكل سبيكة من الذهب الرملي الى التاجر الذي يعود ويشحن الذهب الى سويسرا وهناك يُصار الى تصفية السبائك. هي رحلة دقيقة قد لا يفهمها إلا تجار الذهب. لكن أصحاب الواجهات هنا، وحتى بعض الصرافين، يعتمدونها من أجل توفير بعض الأموال يُسددون بها مصاريفهم الشهرية.

إيلي صالح، صاحب محال مجوهرات صالح، يشتري الذهب “كاش بالدولار”. ويحدد أسعار العيارات: عيار 18 بسعر 40 دولاراً. عيار 21 بسعر 47 دولاراً. وعيار 24 بسعر 55,5 دولاراً. فهل هذه التجارة الجديدة مربحة؟ هل يمكن الإستعاضة بها عن بيع الذهب والإكتفاء؟ ووفق أي قواعد تُعتمد هذه السياسة التجارية الجديدة؟ يجيب: نحن ندفع دولاراً نقداً أو باللبناني على سعر السوق السوداء، حسب خيار الزبون، لكن نحو 90 في المئة من الزبائن يفضلون الورقة الخضراء. وكل ما نشتريه نعطيه، كل يوم بيومه، الى تاجر كبير ويعطينا مقابله دولارات مقابل عمولة صغيرة تتراوح بين ثلاثة أرباع الدولار أو دولار مقابل كل غرام ذهب. ويستطرد: مشكلتنا أننا ما عدنا نبيع شيئاً، وهذه التجارة تبقى أفضل من لا شيء. كنا نبيع 300 زبون، على الأقل، في اليوم فبتنا نبيع زبوناً واحداً، على الأكثر، في اليوم الواحد. وأكثر من يشتري هو مضطر. وأكثر ما نبيعه محبس خطوبة. أما الشيكات المصرفية التي كنا نقبلها في بداية الأزمة فألغيناها من قاموسنا اليوم. لأن سعر الذهب أغلى ثلاث مرات من سعر صرف الدولار في المصارف اللبنانية. هي خسارة بخسارة”.

التجار الكبار يستثمرون في شراء الذهب فهل هذا إيذان أن سعر المعدن الأصفر الى مزيد من الإرتفاع؟ إيلي صالح يرى أن كل ما يدور حولنا في العالم يشير الى ذلك والى ان التوجه الى السبيكة المعدنية يبقى افضل من حيازة الورق كاليورو والدولار. وكل التوقعات تشي بأن الأونصة ستصل الى 2000 دولار في لبنان بعدما كانت حين اقفل البلد في بدايات كورونا 1500 وهي اليوم 1810 دولارات.

فلنسأل خبيراً إقتصادياً عن رؤيته لتطورات قطاع الذهب وشراء الكبار مدخرات الصغار. الخبير الإقتصادي لويس حبيقة يقول ان كل التوقعات تشي بارتفاع بورصة الذهب وستصل الأونصة الى 2000 دولار قبل نهاية السنة لكن، كما تعلمون، لا شيء مضموناً في البورصة. وإذا كان التجار الكبار قد يواجهون مخاطر غير أن قدرتهم على الموازنة بين الأرباح والخسائر أعلى بكثير من قدرات المواطن العادي. لهذا إذا كان هناك من يريد أن يبيع بعض القطع الذهبية لشراء متطلبات الحياة البديهية فليفعل الآن. هذا إذا كان “محشوراً” وإذا لا فلينتظر أكثر. حبيقة يتحدث عن الذهب الذي كان طوال عمره ملجأ يُستخدم عند الحاجة لكنه، برأيه، ليس بديلاً كاملاً عن “الكاش” ويقول: لا اوافق على نظرية أن المعدن أفضل من الكاش أو الكاش أفضل من المعدن لكني أثق أن الإحتفاظ ببعض الذهب الى جانب بعض الكاش أفضل خيار”.

تملك الدولة اللبنانية، لمن يهمه الأمر، 286,5 طناً من الذهب في الولايات المتحدة الأميركية. لكنها للأسف لا تملك ثقة مواطنيها التي تجعلهم يطمئنون الى أن ذهبهم في أمان!

نقيب الصاغة و”الجوهرجيي” في لبنان أنطوان مغني الذي نعى منذ أشهر القطاع يقول ان لا استثمار رابح مئة في المئة، حتى ليرات الذهب ليست ضمانة شاملة، وتخسر من قيمتها 10 في المئة على الأقل بين البيع والشراء. ويلفت الى أن 90 في المئة من محال الذهب والمجوهرات اقفلت وهناك من شحنوا بضائعهم الى أميركا وأستراليا. وهناك من يعملون على تسييل الذهب وتخزينه أو بيعه كسبائك مقابل دولارات طازجة”.

نعود الى بوغوص كورديان لنسأله أكثر عن المشهدية المستجدة بانتقال قطاع المجوهرات من البيع الى الشراء. يتحدث النقيب عن منافسة قوية بين أصحاب الواجهات لجلب من يريدون بيع الذهب بعدما باع الناس ما يقتنون وما عاد لديهم إلا “القطع الأخيرة” كسنسال الطفل ومحبس الزوجة. ويقول: “هناك فوضى عارمة تجتاح هذا القطاع والشاطر بشطارته وقد يناهز الفرق في سعر غرام الذهب بين محل وآخر أربعة أو خمسة دولارات”.

تمثل نقابة صناعيي الذهب والمجوهرات بين 3500 الى 4000 عائلة لبنانية، والعاملون حتى اللحظة لا يتجاوزون نسبة 5 في المئة. ولبنان خسر طاقات كثيرة ويداً عاملة محترفة. الصناعيون المخضرمون أقفلوا المشاغل في لبنان وغادروا وما تبقى منهم هنا باتوا يعملون في بيوتهم توفيراً لقيمة الإيجار. وكانت هناك مصانع صغيرة تضم نحو ستة أو سبعة عمال ويوجد مصانع كبيرة تضم أكثر من 150 عاملاً وهي لم تكن تتعدى العشرين في المئة. غالبيتها أقفلت نهائياً”.

كلام كثير يرويه نقيب من تبقى من صناعيي الذهب والمجوهرات الذين كانوا ينافسون، بأناملهم، زملاءهم في إيطاليا وأميركا ودبي. وكان ما كان.

واجهات الذهب والمجوهرات تشتري اليوم ما تبقى من ذهب في أيدي اللبنانيين. وكلما قلّ المعدن الأصفر زادت المنافسة بين المحال لان التاجر الكبير ينتظر مقابل “دولارات طازجة”. إنه النفس الأخير. إنه لبنان.