بدا لبنان أمس عيْناً على «حَصانته» الآخذة في التراجُع أمام فيروس كورونا المستجد، وعيْناً أخرى على «حصان الحياد» الذي خَرَجَ من الحظيرة على متن مواقف تَصاعُدية للبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أحيتْ «الجوهرَ السياسي» للانهيار المريع الذي سقطت فيه البلاد وتلاشت معها سرديّة الائتلاف الحاكم (يشكّل «حزب الله» قاطرتَه الرئيسية) التي تحْصر الأزمة المالية – الاقتصادية أسباباً وحلولاً، بأبعاد تقنية، إما داخلية ذات صلة بسوء الإدارة والفساد وإما خارجية ترتبط بـ «حرب التجويع والتركيع الأميركية».
وإذ سيكون «حياد لبنان» أحد عناوين محادثات وزير الخارجية الفرنسي جان – ايف لودريان في بيروت الخميس والجمعة والتي سينقل خلالها إلى كبار المسؤولين موقف باريس المتناغم مع واشنطن ودول أوروبية وعربية من أن لا فرصة نجاة لـ «بلاد الأرز» من الأزمة المالية خارج الإصلاحاتِ وتفاهُمٍ على برنامج إنقاذ مع صندوق النقد والتفلّت من تأثير «حزب الله» وأجندته الاقليمية، بدت بيروت أمس وكأنها «تشدّ الأحزمة» مع طرْقها أبواب المرحلة الرابعة من «كورونا»، أي التفشي المحلي للوباء الذي سيشكّل بحال انفلاته «أسوأ كابوس» لبلدٍ يواجه «حزمة» انهيارات مالية – اقتصادية مفتوحة على «زنار النار» في المنطقة والمواجهة الأميركية – الإيرانية الطاحنة.
وفيما كان مجلسُ الوزراء يَمْضي في الركون إلى استراتيجية «للتذكير وليس للتسكير (قفْل البلد)»، متعهداً التشدد في فرْض تطبيق إجراءات السلامة وسط حبْس أنفاس كبير مع التقارير عن إصابات في صفوف طلبة مدارس (ضمن رحلات) وعن وافدين خَرَقوا شروط الحَجْر وآخَرين قد يكونون حَمَلوا معهم أنواعاً من «كوفيد – 19» هي الأكثر فتْكاً ولم تكن البلاد عرفتْها سابقاً، تحوّل حيادُ لبنان قضيةً محورية في الساحة السياسية وسط مؤشراتٍ إلى دينامية داخلية لداعميه الساعين لتشكيل مظلة جامعة حول البطريرك من منظور تَطَلُّعهم إلى «فكّ أَسْر» الدولة ووقف استرهانها للمحور الإيراني، في مقابل بروز إشاراتٍ تعكس منحى استقطابي طائفي يُخشى أن يكون في سياق محاولة إغراق هذا الطرح بأبعاد انقسامية نافرة تفرْمل اندفاعته.
وتوقفت أوساط سياسية أمس، عند تطوريْن يرتبطان بعنوان الحياد الذي يريد رأس الكنيسة المارونية أن يؤمن له منصةً أممية: صدور أول الكلام عن المعني الرئيسي به «حزب الله» بلسان رئيس كتلة نوابه محمد رعد الذي قال بعد زيارة رئيس البرلمان نبيه بري «اطلعنا عليه ونتابع ردود الفعل»، وهو ما فُسِّر على أنه تريُّث من الحزب في «التصدي المباشر» ريثما يتبيّن مفعول الإحاطة التي قام بها حليفه المسيحي «التيار الوطني الحر» لهذا الملف على قاعدة «إثقاله» بالشروط التي تفرغه عملياً من مضمونه.
والثاني الردّ العنيف من المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان الذي استخدم لغة «الشيعة كأكثرية مكوّنة في هذا الوطن» معلناً «لبنان بلد لأهله وناسه وكل مكوّنيه، لكنه بلد مقاوم لا يقبل أن يكون فريسة للصهاينة أو الأميركيين أو أقْنعتهم».
واعتبر «أن المئة سنة الماضية لم تكن صحية للبنان واللبنانيين الذين كانوا يتوقون الى لبنان الوطن والدولة والمواطن، ولم ينفعنا في يوم من الأيام مجلس الأمن ولا الأمم المتحدة، وخصوصاً عندما كنا نُقتل أمام أعينهم وأعينكم، فلا تتكلّفوا العناء في الذهاب والإياب (…) ولذلك نحن مستعدّون أن ننحت من الصخر قوتاً ولن نمرّر صفقة بيع البلد. وعلى البعض أن يتذكّر أن زمن عودة المارد للقمقم صار في خبر كان».
ولم يحجب هذا الملف الذي يصعب تَصَوُّر أن تعود الكنيسة إلى الوراء فيه، الأنظار عن محاولة الحكومة عشية وصول لودريان توجيه رسالةٍ حول جدّيتها في مقاربة دفتر الشروط الإصلاحي، الذي يتقاطع في بعض جوانبه مع السياسة لارتباط قضايا مثل ضبط الحدود والتهريب عبرها بـ«البنية التحتية» العسكرية والاقتصادية لـ «حزب الله».
وفي هذا السياق، تجاوز مجلس الوزراء في الجلسة التي عقدها برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون خلافاته ووافق على التعاقد مع شركة Alvarez & Marsal للتدقيق الجنائي ومع شركتي kpmg وoliver wayman للتدقيق المحاسَبي في حسابات مصرف لبنان (من دون تحديد مهلة زمنية للفترة التي سيشملها التدقيق) وسط تسجيل 3 من وزراء الثنائي الشيعي (امل وحزب الله) تحفظاً عبّروا عنه بوضع ورقة بيضاء «لأن الشركات المدرجة إما لديها فروع في إسرائيل وإما فيها خبراء إسرائيليون»، قبل أن تقرّ الحكومة معاينة البضائع على الحدود إلزامياً بالـ (scanners).
ورغم وصْف رئيس الحكومة حسان دياب، قرار التدقيق الجنائي الذي دَفَع في اتجاهه رئيس الجمهورية والذي رُجح أن يستمرّ لنحو ستة أشهر بأنه «تاريخي»، فإن أوساطاً مطلعة تخوّفت من أن يتمّ استخدام هذا الملف في «الحروب السياسية» الداخلية، مستدلّة على ذلك من أن هذا التدقيق لم يشمل «الثقب الأسود» الأكبر في مالية الدولة والذي استنزف أكثر من 45 مليار دولار، وهو ملف الكهرباء، ناهيك عن التعاطي مع القرار القضائي – السابقة بالحجز الاحتياطي على ممتلكات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على أنه مشبّع بخفايا سياسية، وصولاً إلى اعتبار أن التشدد في مراقبة حركة البضائع عبر الحدود على أهميتها لا يُسْقِط «الخاصرة الرخوة» الأخطر التي تشكّلها الحدود غير الشرعية.
وفي موازاة ذلك، رأت الأوساط أن المسرح السياسي قد يكون مقبلاً على اشتباكٍ جديد بين رئيس الجمهورية وفريقه وبين بري ومن خلفه «حزب الله» على خلفية الإشارات المتزايدة إلى أن عون يسعى إلى «استرداد» ملف ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل إلى جانب ملف النازحين السوريين.
وفيما رأت الأوساط أن وضْع عون يده على قضية الحدود البحرية قد يكون مرتبطاً برغبة فريقه في الإمساك بورقة بارزة تعزّز موقعه بإزاء الضغوط الأميركية المتصاعدة على لبنان والتي قد تشمل خلال أسابيع فصولاً جديدة من بوابة العقوبات على شخصيات حليفة لـ «حزب الله»، إلا أنها اعتبرت أن أي محاولة في هذا الاتجاه ستكون محكومة باعتبار «حزب الله» الترسيم البحري مع اسرائيل والحدود مع سورية مسألةً «لا صلاحية» لمجلس الوزراء فيها كونها من القضايا الاستراتيجية التي توفّر«كرسي تفاوُض» جديد لطهران مع واشنطن حين يحين الوقت ومن هنا كان قرار الحزب بتفويض شريكه في الثنائية الشيعي أي بري الإدارة الحصْرية لهذا الملف.